عرفت شاباً حفيت قدماه من السعي حتى فاز (بوعد) بأن يستخدم (ساعياً) أو نحو ذلك بعد أن يقر البرلمان ميزانية الدولة. ووافق البرلمان عليها وأصبحت معمولاً بها وراح صاحبنا يستنجز الوعد ويستعجل التعيين فلم يجد إلا مطاولة وإخلافاً، فمل ذلك وجاءني يوماً وذكر لي جيرة أهله لنا في بعض ما مضى ورجا أن أدله على وسيلة تبلغه ما يريد. فقلت له يا أخي: أما الحكومة فلا صلة لي بها، وأنا أراك لا تستنكف أن تعمل فيها عمل الخدم وإن كنت شاباً متعلماً، فإذا كان هذا هكذا فما أظن أن الدنيا تضيق بك في غير الحكومة ولن تعدم عملاً في شركة أو متجر أو ما شابه ذلك. ولم أزل به حتى صرفته عن الحكومة، فمضى عني وفي نيته أن يلتمس الرزق من العمل الحر. ولم يكد يفعل حتى ساورتني الوساوس، فقد رأيته شاباً حيياً طيب القلب سليم النية مستقيم الفطرة لا يكاد يعرف عن الدنيا شيئاً؛ ومثل هذا خليق أن يغرق في محيطها الطاغي، ولكني لم أكن أستطيع أن أصلح ما اعتقدت أني أفسدت، لأني لا أعرف أين يسكن حتى كنت ألحق به وأمحو ما وقر في نفسه من كلامي. ولم يعد هو إلى بعد ذلك فذهب كل أمل، فجعلت ألوم نفسي وأوسعها تقريعاً وتأنيباً، ثم شغلتني الحياة فنسيته.
ومضت شهور لا أراه ولا أسمع به - وأعترف فأقول: ولا يرد له ذكر على بالي. وجاء الصيف واحتجت أن أقضي بضعة أيام في الإسكندرية فنزلت في فندق جديد على البحر عند شاطئ (ستانلي)، فأتفق يوماًُ أني خرجت أتمشى فعدت متعباً فقلت أستلقي على السرير ففعلت وأخرجت سيجارة احتجت لإشعالها أن انهض قليلاً لأمد يدي إلى الكبريت، وكان على منضدة صغيرة قريبة من السرير، فما راعني إلا حذاءان ضخمان لا حق لمخلوق في أن يكون له مثيل ما فيهما من القدمين، ففزعت ثم تذكرت أن الذي يختبأ تحت السرير يكون هو الخائف الفزع، ففي وسعي أن أطمئن قليلاً، فقمت فقعدت على كرسي ودعوت صاحب القدمين الكبيرتين أن يخرج بالعفو عنه، فخرج القهقري - أعني أن الساقين ظهرتا أولاً ثم الجزع ثم الكتفان ثم الدماغ.
وبعد أن خرج هذا كله رفع صاحبه وجهه إلي فإذا هو الشاب الذي غاب وانقطعت أخباره