تخلد الأمم على وجه الأرض وتحيا على مر الدهور وتثبت في صفحات التاريخ بأسباب وقوانين. ويختلف حظها من الخلود ومن المجد باختلاف هذه الأسباب المؤاتية والقوانين السارية، قوة وضعفاً، وإبطاء وإسراعاً، وضيقاً واتساعاً. وهي أسباب متصلة متشابكة يؤدي بعضها إلى بعض ويمسك بعضها بعضاً. من هذه الأسباب صلاحية الموطن، والقوة الحسية والمعنوية، والثبات للحادثات، والاحتفاظ بالخصائص، والاعتداد بالنفس والثقة بها، وحضارة الأمة وأثرها في العالم، وقدرتها على الأخذ والإعطاء في معترك الأمم، والمكانة بين الناس، وعظم التاريخ على مر الدهور
فأما الوطن فقد منح الله العرب موطناً فسيحاً وسطاً بين المواطن، فياضاً بالخيرات بعيداً من الآفات الطبيعية المدمرة. موطن العرب جزيرتهم التي ولد فيها تاريخهم ومثواهم القديم الذي عرفهم فيه التاريخ منذ تحدث عن البشر بين نجد إلى إيران وجبال طوروس والبحر الأبيض، ثم متقلبهم الذي نشرهم فيه الإسلام إلى بحر الظلمات وأواسط أفريقية. وهو موطن شاسع الأرجاء يقع معظمه في الإقليم المعتدل، وقليل منه في الإقليم الحار، وتجرى فيه ثلاثة من أعظم أنهار العالم: النيل ودجلة والفرات، وتتقسمه السهول الخصبة، والبراري والصحارى والجبال، وتمتد سواحله على بحر العرب والبحرين الأحمر والأبيض. هذا الموطن العظيم يكفل الحياة القوية والعيشة الغنية، والثبات على الخطوب، والبقاء على الزمان. وقد جعل الله مهد العرب جزيرة ممتازة محدودة بالبحار من معظم جهاتها فحفظت هذا الجنس القوي بمعزل من تقلب الجماعات، بعيداً من طرق المهاجرات فبقى يطبع الأجسام القوية والطباع السليمة، والفطر الخالصة، ثم يمد أجزاء الموطن العربي الكبير، كلما نالت الخطوب من أهلها أو أترفتهم الحضارة. وما يزال يقذف بهم موجة بعد موجة كالنهر العظيم المتدفق من قنن الجبال، بعد ينبوعه من الشوائب، واطرد مجراه إلى الغاية المقدورة له، ونبتت على عبريه الزروع والأشجار، وحيّت الأمم
ما تزال جزيرة العرب خلاقة ولادة فياضة ممدة لأقطار العرب بالقبيل بعد القبيل. فإن بليت الأمم فهذه لا تبلى، وإن أفنت الأقوام الحوادث فالعرب لا تفنى، وإن نضب معين