قيل إن أبا العلاء المعري شرح ديوان المتنبي وسماه (معجز أحمد) وشرح ديوان أبي تمام وسماه (ذكرى حبيب) وشرح ديوان البحتري وسماه (عبث الوليد). ولعمري لو كان شعر البحتري عبثاً ما احتفل له أبو العلاء المعري ولما سلخ زمناً من عمره في شرحه، وإلا كان المعري عابثاً لإضاعة وقته في شرح العبث. وهذا أمر يذكرني بكارليل والقرن الثامن عشر، فقد كان كارليل كلما ذكر القرن الثامن عشر في أوربا سماه العصر العقيم وعصر طاحونة المنطق، ويعني المنطق الفارغ وعصر الإلحاد؛ ولكنا لو درسنا مؤلفات كارليل لوجدنا أن أكثرها كان في دراسة القرن الثامن عشر ورجاله ونزعاته الفكرية والسياسية، ولو كان عقيماً ما حفل له ولا أهتم به كل هذا الاهتمام. وكنت أود أن أسأل شيخ المعرة، على ما له عندي من الاحترام والمنزلة، هل شعر الوليد (ويعني البحتري وهو الوليد بن عبادة) هو العبث أم الجناس والتزام ما لا يلزم هو العبث؟ وإذا تساويا في العبث فأيهما أحب؟ يخيل إلي أن المعري إنما أراد أن يداعب البحتري، ولعله في صميم قلبه كان يحب عبث الصناعة بدليل ميله إلى الجناس والتزام ما لا يلزم؛ والحب يجلب المداعبة ويغري بها كما يداعب المحب حبيبه، وقد يكون ثقل المداعبة دليلاً على شدة الحب الذي لا يجد تنفيساً وترويحاً إلا بالتثاقل بالمداعبة. وإذا أضفت إلى ذلك اعتزاز المعري بتفكير كثير ليس للبحتري مثله كنت قد جمعت بين شِقَّي المداعبة وسببيها. فليس من المحتوم أن يكون لها سبب واحد. على أن المعري يُغْري أحياناً بمعارضة البحتري في شعره، وهذه مداعبة أخرى في ثناياها الجد فقد قال البحتري من قصيدة:
وعَيَّرتْني سجال العُدْم جاهلة ... والنبع عريان ما في فرعه ثمر
أي أن الفقر لا يعير به الرجل كما أن الشجر النافع مثل النبع لا يعير بأنه ليس له ثمر. فقال المعري يعارضه:
وقال (الوليد) النبع ليس بمثمر ... وأخطأ سِرْبُ الوحش من ثمَرِ النَّبْعِ
يعنى بالوليد البحتري ويقول: إن قول البحتري إن النبع ليس له ثمر خطأ لأن النبع تصنع منه القِسىُّ وبالقوس يقنص الصائد سرب الوحش، فكأن سرب الوحش من ثمر النبع الذي