فرغ العرب من رسالتهم الدينية بانقضاء الفتوح، ولم يكد الأمر يستوثق لهم والنظام يستقر بهم وظلال الامن ترف عليهمحتى أخذوا يبلغون العالم رسالتهم العلمية بذلك العزم الذي لا ينكل عن خطة ولا يقف دون غاية. وكان مهبط الوحي بتلك الرسالة بغداد لأنها البلد الأول الذي رفرف عليها السلام وتدفق فيه الغنى واشتد به الخلاط وتجمعت لديه شتى الوسائل. ومن خير هذه الوسائل التي حققت هذا الشرف للعراق أن علماء النساطرة الذين نفوا إليه من الممالك الرومانية الشرقية لأسباب دينية، كانوا قد أنشأوا في إديسة من بين النهرين مدرسة تنشر علوم اليونان والرومان، ولما أغلقها الأمبراطور زينون الأوزريالي لأسباب دينية أيضاً، لاذوا بأكناف بني ساسان فلقوهم لقاء جميلاً، وأقام لهم أنوشروان في جنديسابور مدرسة وصلت ما انقطع من تلك الحركة.
وكان الأمبراطور جستنيان يومئذ قد فتح باب الجور على أساتذة المدارس الأفلاطونية في أثينا والإسكندرية فألجأهم للجلاء والشراد فما اعتصموا منه إلا بفارس. وأخذ هؤلاء وأولئك ينقلون إلى السريانية والكلدانية كتب أرسطو وسقراط وجالينوس وأقليدس وأرخميدس وبطليموس، فكان ما ترجموه من العلوم ومن خرجوه من العلماء نواة صالحة لهذه النهضة المباركة التي نهد لها الخلائف الأولون من بني العباس. كان أول من تلقى وحي هذه الرسالة الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور فأنشأ المدارس للطب والشريعة واستقدم جرجيس بن بختيشوع رأس أطباء جنديسابور ونفراً من السريان والفرس والهنود فترجموا له كتباً في الطب والنجوم والأدب والمنطق. ثم حملها من بعده الرشيد فنفخ فيها من روحه ونشرها في العالم بروحه وترجم في زمنه ما وجد من كتب الطب والكيمياء والفلك والجبر والنبات والحيوان. فلما تلقاها المأمون لم يبق من كتب العلوم والفنون والصناعة شيء في العبرانية واليونانية والسريانية والفارسية والهندية إلا نقل إلى العربية. ولم يقف العرب عند الدرس في هذه المترجمات وإنما أقبل بعضهم على تحصيل اليونانية واللاتينية ليرجعوا بهما إلى بعض تلك الأصول. وفي مكتبة الاسكوريال ما يثبت ذلك من