أبو الفرج الببغاء أديب سامق البناء أدبه، فله الشعر العذب الرقيق، والنثر الحلو الرشيق. إذا أنشدت شعره كنت كمن يسرح طرفه في حديقة فينانة أريضة، غانية بمختلف الأزهار، ساحرة بموسيقا الأطيار، قد انتظمت أسماطاً وقلائد، وضمت أوساطا وخرائد؛ تجيل فيها بصرك فلا تدري أي شعابها تسلك؛ فوصفه يهدي إليك صورة أروع من المصوّر، يعرض عليك الحقيقة مرصعة بالخيال، والخيال موشي بجمال الحقيقة؛ ومدحه فرائد يطول بها جيد الممدوح، ولآلئ ليس لها مثال، بل هي مضرب الأمثال. فمن ذلك الذي يوصف بمثل قوله:
يا عارضاً لم أشم مذ كنت بارقه ... إلا رويت بغيث منه هطَّال
رويدَ جودك قد ضاقت به هممي ... وردَّ عني برغم الدهر إقلالي
لم يبق لي أمل أرجو نداك به ... دهري لأنك قد أفنيت آمالي
من هذا الذي يبلغ نداه أن يرغم الدهر ويفني الأمل؟ ولا يطاول الجوزاء فيطولها، ويسامي السماء فيسمو عليها، وخمرياته وتشبيباته وتشبيهاته فعلها في الرءوس دونه معتق المدام، وأثرها في النفوس أنكأ من أثر الحسام، فكل شعره يبهر من يراه ويسحر من ينظر فيه، فهو أزاهير من الجمال، وطاقات من الحسن والروعة تحير الألباب وتخلب الأبصار. وإنه لمما يشق على النفس الشاعرة أن ينفرط عقد لا يجيد تنظيمه غير راسمه، أو ينتكث نظم لا يحسن تنضيده سوى ناظمه، فلا محيص حينئذ من أحد أمرين كلاهما محبب إلى النفس مرهف الحس؛ إما أن تستوعب ذاكرتك ما قرأت فتلتهمه روحك بعد أن أنتهبه بصرك، وإما أن ترسمه في مخيلتك ليرقى برسمه خيالك وترق بصوره آثارك
نسبه: ينتسب أبو الفرج إلى قبيلة عريقة في عربيتها لا تفرعها قبيلة شرفاً وخيماً هي قبيلة بني مخزوم؛ وولد بنصيبين في أوائل القرن الهجري الرابع، ولم أعثر على مصدر يحقق لي سنة مولده. ترجم له الخطيب البغدادي في الجزء الحادي عشر من تاريخ بغداد فقال عنه:(عبد الواحد بن نصر بن محمد أبو الفرج المخزومي الحنطُبي الشاعر المعروف بالببغاء. كان شاعراً مجوداً وكاتباً مترسلا، مليح الألفاظ جيد المعاني حسن القول في المديح والغزل والتشبيه والأوصاف)