للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بين جِيلَين. . .!

للأستاذ محمود محمد شاكر

انتفض شعر المتنبي فرمى إلي بهذين البيتين، وهما على بساطة لفظهما كالجبلين الشامخين في تاريخ الحياة الإنسانية:

سُبِقنا إلى الدُّنيا فلو عاش أهلها ... مُنعنا بها من جَيْئة وذُهوبِ

تملَّكها الآتَي تملّك سالبٍ ... وفارقها الماضِي فِراق سَليبِ

أفليس لمَلك الموت من عَملٍ إلا إخلاء الطريق للقادم، حتى يتاح له أن يغدوَ ويروح في الأرض التي ورثها عن السابق الفاني الذي مهَّد له بمواطئه سبيل الحياة!! ولعلّ ملك الموت يحارُ أحياناً حْيرَة تديرُ رأسه في الأمر الذي حمل أوزاره، وكُلَّف بقضائه، ولعله يرى أحياناً أنه يزيلُ خيراً كثيراً ليخَلُفه شرُّ كثير، فهو يتردّد تردُّد المتحسّر على ذاهبٍ هو أولى بالبقاء من قادم، ولكنه يقضي قضاءه الذي لا يجد عنه مندوحة ولا مهرباً؛ وهو ككل صاحب صناعة قد أَلفها ودرِب عليها ولا يجيدُ سواها؛ فهو يعيش بها على الرضى وعلى السخط، وعلى الفقر والغنى، وعلى الفتور والنشاط؛ وهو كسائر الخلق ميسَّرٌ لما خُلق له، ولو تُرك له أن يختار لاختار قديماً كثيراً على جديد كثير، ولآثر ناساً على ناس وحياةً على حياةٍ. ولقد أرثي أحياناً لهذا المخلوق البائس الذي يسَّرهُ الله لصناعة الإفناء والإهلاك، فإنه ولا ريب يرى ما لا نرى ويحس ولانحس، ولربما كلَّف أن يقبض الروح من زهرة ناضرة لم تكد تستقبل الحياة. فهو يذوب لها رقة وحناناً لما سوف تتجرّعه من غُصصه وسكراته وحشرجته ومكارهه، فكيف يقسو على من هو بالرحمة أولى، وبالبقاء أخلق من أخرى لم يبق فيها العمر المتقادم إلا الأعوادَ والأشواك والجذور التي ضرَبت فيها الأوقات، وبَرِم بها البِلَى من طول مُرَاغمتها له على العيش!

وكيف يفعل هذا البائس حين يعلمُ أنه قد دنا أجلُ عقل عبقريّ لم يتمّ عملة لخير هذه الحياةِ الإنسانية، فهو مأمور أن يطفئ نوره ليخلُفَه عقل دَجُوجيّ لا يأتي إلا بالسواد والإظلام؟ أترى أنامله ترتجف من الإشفاق والضنّ والبُقْيا على هذا السراج الذي أمر أن يقطع عنه أسباب الحياة؟ أم تُراه يفعل ذلك وهو مسلوب العقل والإرادة والإحساس كأنه قائد من رجال الحرب الحديثة، لا عقل له إلا الحرب، ولا إرادة له إلا الحرب، ولا إحساس له إلا

<<  <  ج:
ص:  >  >>