للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الحرب، فهو كله حرب على الجنس البشري شِيبه وولدانه ورجاله ونسائه، لا يرحم صغيراً، ولا يوقَّر كبيراً، ولا يشفق على أم ولا ذات جنين! أم تراه يعلمُ ما لا نعلمُ من خبئ هذه الحياة الدنيا، وأن جليلها الذي نجُّله ونوقره، هو أولى الشيئين بالمهانة والتحقير، وأن الحقير الذي نزْدريه كأن أولاهما بالتجلّة والتوقير؟ فهو إذن يؤدي عمله راضياً عن نفسه وعما يعمل، لا تزعجه الرحمة لما لا يستحق رحمة، ولا يُمسك يده الإشفاق عما لا يستأهل إلا الإرهاق والتعذيب. وكأننا نحن إنما نحبُّ ونبغض ونرضى ونكره على قدر إدراكنا وما بلغ، لا على منطق الحياة المتطاولة الآماد والآباد، فنرى الأشياء متصلة بمصالحنا ومنافعنا، ومحصورة في حاجات أنفسنا وآمال قلوبنا، لا متماسكة ممتدَّة في كهوف الأمس السحيق، وسراديب الغد العميق.

فلو أن هذا المَلك كان ميسَّراً لإدراك الحياة ومعانيها بمثل العقل الذي ندركها نحن به، وكان كمثلنا في تقدير الأقدار على قياس الحاجات والآمال الراهنة محجوباً عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، لرأيناه يحرص أحياناً على أن يُبْقي على بعضنا ويعجل أحياناً في القضاء على بعضٍ آخر نظنُّ، ويظنُّ معنا، أنه لا معنى لبقائه في هذه الدنيا ليكون زِحاماً من الزِّحامِ لا عمل له إلا أن يَعُوق المتقدم، ويعثُر به الماشي، ويتفلَّل من جرائه حدُّ الماضي المتعجل، ولكان الناس يومئذ يأتون إلى الدنيا ليجدوها ممَّهدة من نواحيها لا يلقى لاحقٌ عَنتاً من وجودِ سابق؛ ولا يصادف إلا طريقاً خالياً لا يضطره إلى جهاد ولا حيلة ولا حذر، ولا يحمله على النظر والتأمل والهمة في إصلاح الفاسد والفكر في أسباب الفساد، وبذلك يتعطل العقل وتقف الإرادة ويستنيم المرءُ إلى الراحة حين يرضي عن عمل من سبقه من الذين أبقى الموت عليهم لأنهم أهلٌ للحياة. وكذلك تنقطع مادة الحياة، ويتفانَى الخلق بالرضى والقناعة كما يتفانون اليوم بالسُّخط والطمع. بيد أن موت الرضى والقناعة شرٌّ كله لأنه عقيم لا ينتج، أما موت التسخُّط والطمع فهو إلى الخير أقرب، لأنه يبقي البقية الصالحة التي تستمرَ ٌّ بها الحياة متجددة على وجه الدهر.

ومن أجل ذلك قُدّر للآتي القادم على الدنيا أن يأتي منذ يولد وفي إهابه حبْ التملك والتسلط والأثرةِ والعناد واللجاج في صغير الأمر وكبيره، وكذلك الطفل. وقُدّرِ للذاهب الراحل عن هذه الدنيا أن يدلف إلى الغاية، وقد نَفضَ عن نفسه أحبَّ أشيائها إليه فهو يؤثر الزُّهد

<<  <  ج:
ص:  >  >>