فرغ الشيخ منصور من قراءة (الأهرام) ثم ألقاها من يده الراعشة على الوسادة وقال بلهجة الساخط القانط: (أي زمان هذا؟) هل أتى أمر الله وقامت القيامة؟
وكنا خليناه لنفسه ساعة شغلها بالنظر في الجريدة، وشغلناها في شأن من شؤونه. فلما تحرك هذه الحركة العصبية، وقال هذه الجملة التعجبية، أقبلنا عليه نستفهمه الأمر ونناقله الحديث. والشيخ منصور هذا فقيه نابه من فقهاء الأزهر القديم، قضى عمريه في خدمة الدين وعلومه وهو على الحال القروية الأولى من بساطة الطعام والمنام والملبس، فلم يشْك داء ولم يشرب دواء قط!
أولاده مثقفون مترفون، يشغلون المناصب الرفيعة ويسكنون المنازل الأنيقة وينعمون بمتع الحضارة؛ ولكنه لا يزال هو وزوجه الشيخة يعيشان في دارهما العتيقة في حي الباطنية على النمط الأول: يأتدمان بالفول، ويتفكهان بالتمر، ويستصبحان بالزيت. ولا يخرجان - إن خرجا - إلا لصلة رحم أو لزيارة ضريح. والشيخ لا ينفك يحمد الله على أنه لم يركب سيارة، ولم يغش قهوة، ولم يشهد حفلة، ولم يتعلق بشيء من أسباب الدنيا إلا بما لا بد منه لسلامة البدن والدين؛ فلولا أنه يقرأ الصحيفة كل صباح، ويسمر مع نفر من تلاميذه كل مساء، لكان بينه وبين هذا العالم المتغير (كمال الانقطاع). وهو اليوم يدخل في حدود التسعين من سنيه قطيعَ القيام قعيدَ الغرفة، إلا أنه سليم الحواس شاهد اللب؛ ويرى أن الفضل فيما يتمتع به من طول العمر ونقاء الجسم وفراغ البال، إنما يرجع إلى الإيمان بحكمة الله والرضى بقسمة القدر. وبلغه أن قوماً من العلماء يسكنون في أحياء الأغنياء، ويستطيلون على الناس بالجاه والثراء، وأن أحدهم بلغ من ترفه وسرفه أن اشترى ثلاجة بعشر جنيهات، فاستهال الخبر، وتعاظم الأمر، ثم بكى وقال: يا حسرتا على الدين والعلم! إن العالم إذا امتلأت عينه من الدنيا، فرغ قلبه من الدين!
سأله أحدنا: ماذا قرأت يا مولانا في الجريدة فأنكرته على الزمان؟ فأجاب بلهجته تلك:
(حرب داخلية في الغرب، وحرب خارجية في الشرق، وحرب عالمية تترقب في البحر، وتتوثب في البر، وتتنزى على ألسنة الساسة المساعير من أبناء المدنية وربائب الحضارة؛ ثم سقوط الفرنك في سورية، وحبوط السياسة في فلسطين، وهبوط القطن في مصر، وقنوط الناس في كل مكان من صلاح الحال وانفراج الأزمة؛ ثم وباء الدنج الذي يؤازر