بل إن أطول الفلاسفة باعاً في ميدان التأمل ليس بمنجاة من شطحات الخيال، ونزوات الشعر، وضغط القصائد المكبوتة - تعصف ببنائهم الفلسفي بين حين وآخر حتى لتكاد من قوتها لدى البعض من تسلكهم في عداد الشعراء المتفلسفين، أو الفلاسفة الشاعرين. فذاك أفلاطون: برغم عبقريته الفلسفية، وتناسق مذهبه، وتكامل آرائه، تعصف به في رحلة الفكر أنواء الخيال، وتهب عليه في جفاف البحث العقلي نسمات شاعرية تتبدى في نظرية المثل وما يورد لها من تشبيهات، كقصة الكهف المشهورة التي ترى الحياة الدنيا أناساً يحيون في كهف مظلم، مقيدين حتى ليقضون العمر مولين ظهورهم لباب الكهف لا يستطيعون حراكاً، وموكب الحياة والأحياء ماض في سبيله أمام باب الكهف لا يرون منه غير أشباح وأخيلة ترسلها شمس قوية من خارج جدار الكهف. فهم لطول العهد بتلك الأشباح ولحرمانهم من معرفة الأصول التي تنبعث عنها يظنون لجهلهم ومحدود أفكارهم أنها الحقائق. كذلك شأننا في الحياة الدنيا، طال مقامنا فيها، وكبلتنا أغلال الحس وسلاسل البدن، فتوهمنا الكائنات المادية حقائق واقية، في حين أنها صور زائلة لحقائق باقية، مسوخ مشوهة لمثل كاملة؛ ثم يمضي أفلاطون الحالم بعالم كامل تتحقق فيه المثل العليا التي يطمح إليها، مثل الحق والخير والجمال، ليتمثل عالماً آخر غير عالمنا يجد فيه ملاذا من نقائص عالمنا، ثم يدعو الناس أن يحلموا معه في قول شاعري حلو يورده في محاورته (المأدبة):
(إن ما يعطي قيمة لهذه الحياة إنما هي مشاهدة الجمال السرمدي نقياً لا تشوبه شائبة، بسيطاً لا تغطيه أشكال وألوان مصيرها إلى الفناء. هذي مراحل الحب يقطعها في البحث عن ضالته، وشفاء لغليله، فهو واسطة ومساعد يحفز النفس إلى الكمال، ويبهج الذكرى القديمة: ذكرى المثل والحياة السماوية الأولى، ذكرى الفردوس المفقود تحن إليه بكل