ينقضي العام الأول على مغادرته الدنيا، ومع ذلك فهو لا يزال مجهولاً، وسيبقى مجهولاً إلى الأمد البعيد؛ لا لأنه كان شخصية تافهة ضئيلة الأثر في نفوس الجماهير، ولا لأنه كان غامضاً يمز على إفهام الناس كشف حقيقته، بل لأنه ظهر في عصر من الغموض والركود، بحيث لا يعني الجماهير بغير مظاهر الحياة وأشباحها البارزة للأبصار المجردة. ولو كانت الحياة الفكرية ذات وضع يمكن أن يحسه الناس في مصر لما مرت عليهم صورة من صور الأحداث الشاذة دون أن يتفهموا ويستكشفوا غامض الشذوذ فيها. وإذن لحفلوا بحياة (كامل الخلعي) لا من الجانب الموسيقي، فحسب، بل من جانب لم يعن به القوم في حياة هذا الفنان: وهو الجانب الفلسفي.
لقد كان (كامل الخلعي) صاحب رسالة خاصة في الفلسفة، لا أدري أكانت في كنهها فوق متناول العقلية المعاصرة، أم أن الناس لم يحفلوا بها عامدين لانصرافهم إلى حياة المادة الهينة بعيدة عن الفكر، وما يحيط الفلسفة من غموض، وما يستلزمه بحثها من تكاليف.
وسواء جهلت الجماهير شخصية (كامل الخلعي) عن عمد أو امتنع عليهم فهم رسالته في الفلسفة، فهو قد غادر الدنيا تشيعه أسراب من سحائب الغموض وثوى في مرقده بين صبابات من مجاملات الأقلام جافة الدموع
كان (الغموض) هو شعار الفلسفة التي انطبعت بها حياة (كامل الخلعي) ولذلك ظل الناس يجهلون حقيقته حتى أقرب الناس إلى نفسه. وقد كان مسرفاً في الحرص على أن تفيض روحه الفلسفية على كل مجهول. وفي هذا المنحى الدقيق تلمس الإيمان الصحيح في عقيدة (كامل) وتحس تمكن الدين من نفسه لأنه رغب عن متاع الدنيا واستطاب أن يجوع ليختفي عن سمعه صوت الجياع حتى لا يثير عواطفه توجع الغير وآلامه. فيكون من الأمور العادية عنده أن يدفع بكل ما في جيبه لمستجد شعر بمرارة حاجته. ثم يعود إلى بيته ماشياً على قدميه، وليس عند أولاده طعام اليوم، وكلما نازعه الإحساس بالندم أمام عسرته لتفريطه في قوت أولاده تذرع بقوله تعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)