للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أبصر طريقك]

للأستاذ محمود محمد شاكر

منذ ظهر دين الله في الرض، وتدافعت أمواجه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وضرب تياره أسوار العالم المحيط به، وطهر بلاداً كثيرة وغسلها مما فيها من الشرك والكفر والإهلال لغير الله سبحانه، أخذت تتجمع في أطرافه عداوة لا تنام، وبقيت هذه العداوة تنازل جنود الله عاماً بعد عام في ثغور حشدا واحدا، بدأت به الغزوات المتلاحقة التي عرفت في التاريخ باسم الحرب الصليبية. وظلت هذه الحروب مشبوهة قرونا طويلة، وأدانها السلاح والجيوش والمواقع.

ثم انتهت حرب السلاح والجيوس، إذ وضع العالم الإسلامي سلاحه، بل أًصح من ذلك، أن العالم الإسلامي يومئذ لم يكن معه سلاح يضعه أو يرفعه. وإذا كان فيه سلاح، فهو سلاح لا يغني عنه في لقاء هذه الأسلحة الجديدة، التي جاءت مع الغزاة. ومن يومئذ انتقلت الحرب الصليبية من ميادين القتال، إلى ميدان آخر: هو الحياة نفسها!

كانت خطة الحرب الصليبية الجديدة، هو دك الحياة الإسلامية كلها: تدك بناء هذه الحياة، وتدك علمها، وتدك آدابها، وتدك أخلاقها، وتدك تاريخها، وتدك لغتها، وتدك ماضيها. وفي خلال ذلك ينشأ بناء جديد لهذه الحياة، بعلم غير العلم الأول، وأدب غير الأدب، وأخلاق غير الأخلاق، وتاريخ غير التاريخ، ولغة غير اللغة، وماض غير الماضي. ويأتي يوم فإذا الهزيمة واقعة كما وقعت في الميادين. ويصبح العالم الإسلامي وليس معه من الحياة التي كان بها عالما صحيحاً، إلا بقايا لا تغني عنه، كما أصبح يوماً في ميدان الحرب، ومعه بقايا أسلحة لا تغني عنه شيئاً

جاءت الغزوات الصليبية الجديدة متلاحقة سريعة نفاذة تنشر طلائعها الأولى في كل مكان، مزودة بالفهم والإدراك والمعرفة، بطبيعة هذا الميدان الجديد، فتلقى قوماً قد سلبوا الفهم والإدراك والمعرفة لطبيعة هذا الميدان. ولكنهم كانوا بفطرتهم يعلمون أن هذه الطلائع عدو لهم، فقاومهم من قاومهم بما تستثره الفطرة من بغض العدو والشك فيه، وإن جاء في ثوب المسالم والناصج. وتهاوى آخرون، فوقعوا في حوزة العدو، إذ غرتهم مسالمته وخدعهم نصحه، وظلت هذه الحروب دائرة بيننا وبينهم أكثر من مئة وخمسين عاماً، في سكون

<<  <  ج:
ص:  >  >>