هذا الكتاب لابن رشد لا ينفك عن سابقه الذي تعود الناشرون أن يربطوه به، وأعني به، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، وغرض هذه الرسالة الطريفة الممتعة - كما يتبين من عنوانها - التوفيق بين الفلسفة والدين توفيقاً من شأنه أن يضع حداً للشكوك والأوهام التي تساور المقبلين على دراسة الفلسفة المشفقين على عقيدتهم منها، وأنا أنصح بقراءة هذا النص القوي كل من هو في شك وارتياب، فإنه إن لم يقنع قارئه المتعقل بضرورة التفلسف شرعاً، ولا أقل من أن يهديه إلى أن لا تعارض بين الفلسفة والدين.
وسبيل ابن رشد في التوفيق بين الحكمة والشرع والمؤاخاة بين الفلسفة والدين أن يتقدم في وضوح وبحجة ناصعة ليقول إن الفلسفة هي علم النظر في الموجودات من حيث دلالتها على موجدها، ولما كان طبيعياً أنه كلما زادت المعرفة بالصنعة زاد العلم بالصانع، أي أنه كلما قوي العقل على الاعتبار الذي حث عليه الدين والقرآن - وهو في الفلسفة القياس والاستنباط - أمكن أن يصل إلى حقيقة الخالق، وأن الشرع قد حثنا على معرفة الله فكأنه يحثنا على الفلسفة والنطق وعلوم العقل التي من شأنها أن تؤهلنا للوصول إلى الحق، خصوصاً إذا سلمنا بأن ما جاء به الدين حق، وأن الفلسفة هي الأخرى تنشد الحق، لم يبق إذن تعارض بينهما - لأن الحق واحد، وحتى لو تعدد لم يتعارض بل يتأيد ويتوافق، وبقى على ابن رشد بعد هذا أن يقرر أن ما يطرأ على بعض من يتعاطون الفلسفة ليس من ذنبها، وهو يلحقها بالعرض لا بالذات، كمن شرب الماء العذب فيشرق فيموت، وغاية ما في الأمر أن مباحث الفلسفة يجب أن يلجم عنها العوام كما قال الغزالي من قبل وإن لم ينجح في ذلك في نظر ابن رشد، وأن يقتصر تعاطيها على الخاصة حتى لا نزيع العامة وتضل. والشريعة إذن قسمان: ظاهر يجب ألا يتجاوزه العوام وأن يؤمنوا به، ومؤول هو فرض على العلماء والخاصة.
وهذه نقطة البدء ف الكتاب الذي تدرسونه، وابن رشد يذكر بعدها بوضوح أن غرضه فيه (أن يفحص عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها متحرياً في ذلك