يحلو لي أحيانا الهروب من زمني الحاضر لإثقاله أو إملاله، فارجع إلى ذكرياتي اجتر منها ما ألذ، أو إلى مذكراتي اقرأ منها ما احب.
وفي هذه الساعة التي اكتب فيها للرسالة شعرت بضيق في الصدر أو الفكر، فألقيت بالقلم وقلت لنفسي: دعي الكتابة اليوم وتعالي نتفرج من هذا الهم برجعة إلى دنيا الماضي، فلعل في أصدائها الباقية ما يؤنس هذه الوحشة. وتذكرت أن شهر يناير قد عودني الجميل في ما مضى من عمري، فقد سجلت فيه اكثر ضحكات القلب، وحسبي منها ميلاد ولدي: رجاء والرسالة. فتحت مذكراتي عن صفحات هذا الشهر، فوجدتني قد كتبت في يومه العاشر من عام ١٩٥٠ هذه السطور:
(ألقى البريد الجوي إلي في صباح هذا اليوم غلافا من العراق على ورقة طابع الذوق، وعلى خطه سمة الظرف. فلما فضضته وجدت فيه رسالة وصورة. قرأت الرسالة والإمضاء، ثم تأملت الصورة والإهداء، فإذا هما لآنسة من أوانس بغداد المثقفات، قد أولعت بالأدب وأغرمت بأهله. ثم عدت اقرأ، وعدت أتأمل. وطال تردد البصر والفؤاد بين الصورة وهي رسالة الجسم الجميل، وبين الرسالة وهي صورة الروح النبيل، حتى غاب حسي في سكرة من سكرات الأحلام، تراءت لي في خلالها أطياف في تعاجيب الهوى والشباب، تتراقص نشوى في أزقة (الوزيرية) و (رأس القرية) من مغاني بغداد العزيزة وكلما عاد الحس أو كاد، نضرت إلى الفم الحلو الذي يريد أن يبتسم، وإلى الطرف الأحور الذي يهم بان يقول، والى الشعر المغدودن الفاحم الذي يسيل على الأذنين وأطراف الخدين فيجعل الوجه كله صورة من الفتنة، فتعود إلى الغفوة، أعود أنا إلى الحلم!
وأخيرا تخلصت قليلا من سحر الصورة لأرى صاحبتها الأديبة تقول أول ما تقول:(اعتذر إليك من الكتابة والإهداء على غير تعارف. .) ولم يخل اعتذارها الصريح من احتجاج ضمني على العرف الذي يفرق في مثل هذا الصنيع بين الرجل والمرأة. فلو أنها كانت فتى كما تقول لما وجدت في الكتابة إلى مثل ما يعتذر منه. ثم تحدثت طويلا عن صلتها بالرسالة وحرصها على أن تقرأ كل ما أكتب؛ وخصت بالذكر رثائي للمرحوم محمد علي