كنت في الثالثة عشرة من عمري حين وفد على مصر وباء الهيضة في سنة ١٩٠٢، وكانت قريتنا الصغيرة الفقيرة تنقل خُطاها الوئيدة في طريق الحياة وادعة بالأمن، ناعمة بالرضا، هانئة بالقناعة.
كان المرض قليلا ما يغشاها، فإذا غشيها غشِى الكهل الضعيف. وكان الموت كثيراً ما ينساها، فإذا ذكرها ذكر الشيخ الهرم. لذلك كان المرض لندرته مرهوب الاسم، وكان الموت لوحشته مهيب الصورة. فإذا مرض الصحيح تجمع القوم في منظرته أو على مصطبته، يؤانسونه ويمرضونه ويدعون له؛ وإذا مات المريض لبسوا الحداد عليه العام كله، فلا يلبسون الجديد، ولا يحلقون اللحى، ولا يأكلون الفسيح، ولا يصنعون الكعك، ولا يباشرون المضاجع.
وفي ذات ليلة من ليالي الصيف على ما أذكر، قيل إن لأسرة فلان قريباً غريباً علموا أنه مريض فذهبوا ليعودوه فعادوا به.
وهو يشكو مرضاً لم يشكه أحد من قبل: ظمأ لا ينقعه ماء، وقيء لا يمنعه دواء، وإسهال لا يقطعه شيء. وفي الصباح الباكر نعته الناعيات فأجمعت القرية على الحزن عليه، وأقبلت الجيرة على العزاء فيه، ورسموا المأتم أسبوعاً كالعادة. إلا أن ثلاثة من أسرة الفقيد مرضوا تلك المرضة، وماتوا تلك الموتة، فلم يقوضوا سرادق العزاء، حتى أتى على جميع الأسرة الفناء. وصحا الناس من دهشة الروع وذهول الفاجعة، فإذا كل غرفة فيها مريض، وإذا كان ساعة فيها جنازة! وهان الموت ورخصت الأموات، وإذا كل ساعة فيها جنازة! وهان الموت ورخصت الأموات، فلا يُعاد محتَضر، ولا يشيَّع ميت، ولا يُعزى حي. وقال فقهاء القرية إنه الهواء الأصفر الذي أهلك الله به عاداً الأولى فهيهات أن يعصم الناس منه بيوت مغْلقة، أو حصون معلّقة.
فاستكان القوم للقضاء، وصفت قلوبهم من الحقد، وعزفت نفوسهم عن الدنيا، وانصرف كل امرئ عن عمله في انتظار أجله.
كان الموت الوحِيُّ الذريع يخترم لِداتي في الحارة واحداً بعد واحد، فخلت الملاعب من