قال الفتى لصاحبه وهو يقص عليه تاريخه ويروي له من حوادثه: لقد نشأت يا صاحبي في البصرة، وقد كان والدي من أمجاد البادية، وأجواد العرب، قضت عليه شؤون الدنيا بالنزوح إلى ذلك المصر، يوم أن شب على جدرانه النعيم، وأشرقت في محلاته أنوار الحضارة، فنسلت إليه صنوف الناس من كل حدب، وفيهم طالب الكسب بالتجارة، والراغب في العلم بالتعلم، والطامع في الصلة بالشعر، والحريص على متاع الحضارة بالبذل، ولست أدري لأي أمر من هذه الأمور نزح والدي عن موطنه، ولكني أدري أنه ما كان في حاجة إلى مال، ولا هو من أهل الرغبة في العلم، فلعله كان لا يطمع إلا في نعيم الحضارة الوارف، يروي به جسمه ويمتع به نفسه. على أني سمعت بأنه كان مطلوباً بدم في إحدى القبائل فربما كانت هجرته فراراً من العدو وخوفاً من الانتقام
وليس تحقيق هذا مما يعنيني، وإنما أريد أن أقول لك: إن والدي لم يعرف للحضارة أساليبها، فعاش في حياته الجديدة على أوضاع الحياة القديمة، فالامتهان في نظره مهانة، والعمل في تقديره ذلة، والمال في يده شيء حقير تافه يبذره باسم الجود، ويسرف فيه بلفظ الإنفاق، ففي كل عشية له مجلس عامر بالغناء والشراب، وفي كل ضحوة سامر حافل بالإخوان والأصحاب، وبين هذه وتلك موائد ممدودة، وولائم قائمة، كأن أيام عندنا عرس دائم، فكان أن درجت في أعطاف هذا البذخ، ومررت على هذه الحياة اللاهية المسرفة حتى كنت فتى يافعاً ولم تعرف الأيام مني غير اللهو المسرف، والتبذل المفرط، والبطالة المستهترة. ليس في تفكيري أن أعمل، بل ليس من همي إلا أن أشبع الجسد من لذائذ الحضارة ومتاعها الموفور
ومضت السنون بعضها في أعقاب بعض، ونحن على هذه الحال من السرف والبطالة، وكان لابد للمعين أن ينضب، فقل المال كثير، وتضاءلت الثروة الضخمة، ولم يلبث والدي