أصل كلمة النقد من نقد الدراهم وهو امتحانها ومعرفة الجيد والرديء منها، فهي بهذا المعنى لا تقتصر على ذكر العيوب والتشهير بها، بل تدل على استعراض الشيء والوقوف على محاسنه ومساويه.
وقد تستعمل في معنى الذم والعيب خاصة، ومنه حديث أبي الدرداء:(أن نقدت الناس نقدوك، وأن تركتهم تركوك) فاستعمل الكلمة بمعنى العيب والذم.
وهي بهذا المعنى ضد التقريظ، فالتقريظ مدح الشيء والثناء عليه، مأخوذ من قرظ الجلد دبغه بالقرظ، وقرظه بالغ في دباغه. وسموا المدح تقريظاً (لأن المقرظ يحسن ويزين صاحبه كما يحسن القارظ الأديم) وبهذا المعنى يستعملها الكتاب المحدثون فيعنون بالنقد ذكر المساوئ وبالتقريظ ذكر المحاسن.
ولست أعرض في مقالي هذا للكلمتين من الناحية الأدبية، فلا أعرض لمذاهب النقد الأدبي ومقاييسه، كما لا أعرض لأساليب التقريظ وألوانها، وإنما أعرض لظاهرة نفسية تلفت النظر: هي أن الناس على اختلاف درجاتهم في البداوة والحضارة، والرقي والانحطاط، مولعون بالنقد أكثر من ولوعهم بالتقريظ، ومولعون بالبحث عن العيوب وإظهارها والمبالغة في تصويرها اكثر من ولوعهم بالبحث عن المحاسن وإظهارها وتصويرها، وهم في ذلك بين اثنين: أما ممثل على المسرح يمثل دور الباحث عن العيوب المتجسس على السقطات، يستبشر كلما عثر على خفايا الزلات، ويقيس نجاحه بمقدار ما كشف من أخطاء، وأما مشاهد لهذا المنظر، أكثر ما يهتم له العيب الفاضح والسقطة الشنيعة، يطيل التصفيق لكاشف الزلل ويمنح الإعجاب من أصاب من آخر مقتلا.
ومظاهر ذلك في الحياة كثيرة، فلا تكاد تجد عظيما بأجماع، ولكنك كثيرا ما تجد أصاغر بإجماع، لأن النفوس ترتاح لمنظر الحقير إذ خرج من ميدان المنافسة، ونزل عن مستوى المقارنة، ويضنيها العظيم فتتلمس وجوه النقص فيه، وتخلقها إن لم تكن، وتبالغ فيها إن كانت، لأن العظيم يكلفها العناء في إدراك شأوه وبلوغ منزلته.
ومن مظاهر ذلك أن مجلات عديدة في العالم كله تعيش على النقد، وليس (فيما أعلم)