للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الفلسفة في مهدها]

للأستاذ زكي نجيب محمود

لم تكد تقذف الحياة بهذا الإنسان فوق ظهر الأرض ضعيفاً خائراً، حتى دأب المسكين يسعى ويلح في السعي كلما ألحت عليه ضرورة البقاء، ولم تكن الحياة حين ألقت به رحيمة كريمة فلم تبسط يدها في العطاء بحيث تمنحه من قوى التفكير والغريزة ما يرد به غائلة الضرورة واعتداء الطبيعة في سهولة ويسر، بل كانت مقترة مغلولة اليد، واكتفت من ذلك بالحد الأدنى الذي يحتمه مجرد البقاء، فجاء الإنسان وكل بضاعته من التفكير شعاع خافت ضئيل، يعينه على جمع القوت وإقامة أسباب الحياة.

ولكن الزمان الذي يغير كل شئ قد أخذ بيد الإنسان فأخرجه قليلا قليلاً من تلك الحياة التي كانت تقنع من الغنيمة بدفع الخطر، وما زال به حتى شحذ مواهبه ووسع من نطاق إدراكه، فمرن على القيام بأعباء الحياة بحيث لم يعد يصدر ذلك عن شعور ووعي يستنفذان كل ما يملك من قوة ومجهود، ثم لا يبقى له من دهره شيء. بل أصبحت شئون العيش عادة آلية يديرها اللا شعور. وبذلك استطاع أن يظفر بشيء من الفراغ في الحين بعد الحين، ينعم به بعد جهد العيش الجهيد، فأخذ يلهو بهذا الكون الذي يحيط به، والذي يبعث في النفس اللذة والخوف في آن، ولكن ماذا عساه أن يقول عن ظواهر الكون لكي يرضي خياله الساذج الغرير، سوى أقاصيص ينسجها له الوهم فيرويها لتكون له دينا وأدبا وعلما وما شئت من فنون الإنتاج، وهكذا كانت الميثولوجيا أول الأمر، ثم يمضي الزمن ويمعن في مضيه، فيدفع معه في تياره الجارف هذا الإنسان، فإذا الخيال تضيق دائرته وتضيق. وإذا العقل يتسع ويتسع، ثم إذا بالإنسان قد هانت عليه أعباء الحياة وخفت أثقال البقاء، وبرد الهوب السوط الذي كانت تسلطه عليه ضرورة الحياة ليدأب في جمع القوت ورد الخطر، واستقبل الإنسان عهدا جديدا رأى فيه اللذة والفراغ جنبا إلى جنب مع عناء العمل، وانتقل من حياة تملؤها الضرورات القاسية، إلى حياة يمازجها شئ من ترف الفكر وإبداع الفن، وعندئذ تغير موقف الإنسان، فلم يعد عبدا يذله قانون الحياة وكفى، عليه أن يستمع لإملائه فيطبع، بل اخذ يفكر في خلق السموات والأرض ويسأل نفسه لماذا يكون هذا هكذا؟ وكيف يجيء ذلك كذلك؟ فبدأت بذلك الفلسفة

<<  <  ج:
ص:  >  >>