عرفت في باريس عام ١٩٢٥ الآنسة (فرناند) ابنة أحد القضاة في محكمة (ديجون). كانت طالبة بالسنة الأخيرة من كلية الحقوق، وكان لها بالمستشرق المرحوم (ب. كازانوفا) أستاذ الأدب العربي في الكوليج دي فرانس صلة قرابة أو صداقة، فعرفني إليها لتكون لي في مدينة النور ما كانت (بياتْرِكْس) لدانتي في جنة الفردوس
وكانت هذه الفتاة آية في الجمال والذكاء والظَّرف؛ وكان أعجب ما فيها أنها تؤلف في نفسها بين المتناقضات فلا يكاد النظر العادي يلحظ ما بينها من التنافي! فهي منطقية الفكر حرة العقيدة؛ وهي خيالية الذهن شاعرية العواطف؛ تؤمن بنيتشه كما تؤمن بالمسيح، وتقدس جمهورية الثورة كما تقدس مَلَكية البربون، وتُشيد بفتح العرب للأَندلس كما تشيد بغزو الصليبين للقدس، وتعجب بروحية الشرق كما تعجب بمادية الغرب، وتحدثك في ذلك كله حديث المطلع المقتنع الفاهم؛ فإذا أخذت عليها شذوذاً في قياس القضية، أو نشوزاً في سياق الحديث، عمدت إلى المزاح البارع أو التهكم اللاذع أو الأسلوب الخطابي فتميت على لسانك البيان، وتُطير من عقلك الدليل
أدهشني منها إلمامها بأدب العرب وحكمة الإِسلام وفلسفة الشرق. فلما عرفت اتصال سببها بالأستاذ كازانوفا وهو الذي جعل فنَّه أساطير الشرق وأدب القرآن، عزوت إليه هذا الميل وذلك العلم؛ وعرفت منها بعدئذ أنها كانت تستمع إلى محاضراته في التفسير ومسامراته في الآداب، وأنه أهدى إليها (حديقة الزهور) لصاحب المعالي الأستاذ واصف غالي، وأعارها ترجمة ألف ليلة وليلة لماردروس، فكان أكثر حديثها عن بغداد ودورها التي تفيض بالنعيم والسحر، وتنفح بالبخور والعطر، وتمرح بالقيان والغزل؛ وعن دمشق باب الجزيرة إلى الفردوس، وطريق البادية إلى الحضارة، وملتقى القبائل والقوافل في الخانات المملوءة بالسماسرة والتجار، والأسواق المحفوفة بالمغامرات والأسرار، والغوطة الفياضة بالجمال والحب؛ ثم عن مصر التي خلقت المدنية، وأنشأت الفن، وشرعت الدين، وولدت موسى، وآوت عيسى، وتوجت الملوك بالشمس، وكفنتهم بالخلود، ودفنتهم في الذهب. ثم كانت تتحرق شوقاً إلى النيل وأيامه المشمسة التي يضحك فيها القطن، ولياليه المقمرة التي يحلم