ما كانت الهجرة إلا مركب الأسنة الذي يضر إليه أحرار الفكر والرأي، أو اللهيف المتشوق إلى آفاق جديدة للرزق والمعرفة، فإن الوطن عزيز لدى أهليه وساكنيه، إذ يعيش المرء فيه كما تعيش الشجر في مابتها، فمنذا الذي فارق بلده وذويه ولم يؤلمه البعاد والنزوح طوعاً أو كرها؟
لو عرفنا شعور الطير الذي يسمونه السنونو وقد كتب عليه في الحياة أن يترك عشه إلى أفق بعيد، يفرد فيه جناحيه، لأدركنا عمق اتلأسى والحنين، في مغادرة المنزل المألوف والأرض المعهودة
أبداً نرى الذين جلوا عن بلادهم ومعاهدهم متلهفين عليها، لا هجين بذكرها وآثارها. ولكم علق نظري بأسماء يونانية أو إيطالية كأثينا والأكروبول وفينيسيا وسواها، سميت بها بعض المتاجر والملاهي بمصر، فقلت يا الله! أقام الروم طويلا بضفاف النيل، وظلوا متعلقين بالوطن الأول. وفعل مثلهم أكثر المهاجرين من العرب إلى الديار الأمريكية والأفريقية، فإنشأوا بيوتاً وأسواقاً على طراز ما عرفوا في بلادهم وحافظوا على لهجاتهم وتقاليدهم، وقديماً بقيت الأندلس على عربيتها شرقية أصيلة
هذه خواطر طرفت بخيالي وفكري وأنا أتصور هجرة الرسول محمد بن عبد الله، وجعلتني أتساءل: ترى كيف كان شعور الرسول في تلك الليلة الخطيرة، فإن السيرة لم تقل لنا كب شيء، وما التحاور الذي كان بين محمد عليه السلام وبين صاحبه المحزون وهما يسريان في أناة وحذر، والبيداء تطويهما نحو المدينة؟ لقد بقي كثير من ذلك التحاور في ضمير الزمن، ولم يستطع الفن ولا الأدب أن يكشف عنه حرمة وتهيبا
إن في معنى الهجرة بتلك الليلة المرصودة ما يتعايا دون تصويره القلم واللسان لأنه يحتوي فيما يحتوي فراق الأهل البلد، لا لا كتساب الرزق والصيت أو لا لتماس السلوى في تبدل الوجوه والآفاق، بل من أجل هدف أسمى وأغلى، وفي سبيل إنسانية مثلى، تجعل كل بلد يذكر فيه اسم الله ورسوله وطناً لمحمد، فإن هذا الدين الحنيف لم يولد ليبقى بين الجبلين الاخشبين أو لتهفو إليه الأفئدة من صوب أبي قبيس فحسب، وإنما أراد الله أن يعم العالم