جرت عادة الشعر، أو اعتادت الطبيعة الشاعرة في كل أمة، وفي كل جيل من أجيالها أن تنجب، وأن تلد لنفسها من نجبائها رسلا يؤدون للناس رسالتها، ويقضون دينها، ويوفون للحياة حقها. فيكونون سريرتها النابضة وبصيرتها الوامضة، وبنودها الخافقة ولسنها الناطقة. ويحيون في جيلهم دولة الشعر والأدب.
ولو أننا تتبعنا العصر المملوكي من أوله إلى آخره، وهو زهاء قرون ثلاثة، تضم أجيالا ستة - إذا قدرنا لكل نصف قرن جيلا - لوجدنا في كل جيل منها حلبة من الشعراء، جالوا في الميدان، فرسان رهان، مالكين الأعنة شارعين الأسنة. والأدب اللباب مسلس لهم في الزمام، مرخ في الخطام. ليصلوا منه إلى الغاية، ويوفوا على النهاية. ولأدركنا أن الشاعرية المصرية ما كانت قط عقيما، وأن شعراءها ما كانوا أبداً مقصرين.
وإذا ذكرنا ما كان يحيق بالعصر وأدبائه، من متبطات الهمة وموهنات العزيمة، ومن منغصات العيش ومقعدات الأمل وموئسات الأدب، ثم رأينا أن شعراءه - بالرغم من هذا - انطلقوا في كل واد، وسرحوا في كل مسرح، حتى اتسعت في القول آمادهم، وبعدت آفاقهم، وقضوا حق الشعر فخلفوا منه أفانين، وأدوا رسالة الأدب فأبدعوا منه آيات. لعرفنا أي شعراء وأي أدباء كان هؤلاء الأسلاف.
وترى بين المتعاصرين منهم - فيما ترى - وشائج الأدب موصولة، وصلاته حافلة، وروح سارية متوثبة، ودعوته قائمة منشورة. لا يخلو أحدهم من مطارحة صديق أو معارضة رفيق، أو مداعبة صاحب، أو مفاكهة خليل، أو مسامرة نجي، أو معابثة شجي. أو مسابقة إلى مكرمة شعرية، أو مباراة في مأثرة أدبية.
وأولى حلباتهم حلبة الجزار والوراق، وابن عبد الظاهر والشاب الظريف. ثم حلبة ابن نباتة والحلي والصفدي وابن الوردي والشهاب بن فضل الله. ثم حلبة القراطي والموصلي وابن مكانس وابن أبي حجلة. - وهكذا لا تكاد تخلص من حلبة إلا إلى أختها، ولا تغادر طائفة إلى إلى غيرها. وإذا ذهبنا ننوه برجال كل حلبة عادين مآثرهم، ذاكرين مفاخرهم،