تواردت الخواطر والأقلام (في أجزاء الرسالة الأخيرة) على نقد أساليب الوعاظ في الدعوة إلى الله، فساء بعض الواعظين عندنا، ولو فكروا في مغزاه وما يلزم منه لسرهم، ولعلموا أنه لولا الاعتراف بخطر الوعظ وأهله، ومنزلتهم من الأمة، وعلو قدرتهم عند العامة، ما كتب في (الرسالة) عنهم، ولا استغل الكتاب بنقدهم. ثم إن أولى ما ينبغي أن يتحلى به الواعظ أن يبدأ بنفسه فيعظها، وأن يخلص قوله لله وعمله، وأن يفرغ من شهوات نفسه، فلا تملكه شهوة الشهرة والجاه، ولا شهوة الغنى ولا شهوة النساء، وأن يكون في فعله أوعظ منه في قوله، فلا يأمر الناس بالزهد ثم يخالفهم إلى ما زهدهم فيه فيزاحم المتكالبين عليه، ولا يتظاهر بالدين ابتغاء الدنيا وتوصلاً إليها، فيجمع من حوله العاملين على الكسب الحلال، والجادين في جمع المال من حله، ليأخذ من أموالهم ما يتعالى به عليهم، وليذيق لذائذ العيش من عطاياهم، وليسلبهم فوق ذلك حريتهم وعقولهم وكرامة أنفسهم عليهم، فيصرفهم في مآربه، ويسيرهم حيثما شاء، ويذلهم بين يديه ليستكبر عليهم، ويجعل الدين وسيلة إلى ذلك، فيجعل طاعة نفسه من طاعة الله، بل ربما جعل نصيبها من هذا الشرك أكبر، والعياذ بالله من ذلك. ولقد حدثني من أقطع بصدقه أنه سمع مرة واعظاً من هؤلاء (يقص) على تلاميذه قصة مريد سمع شيخه يقول: يا الله، ثم يمشي (زعم القاص) على وجه الماء الجاري، فسأله أن يتبعه، فقال له الشيخ: قل يا شيخي فلان (يعني الشيخ نفسه) ثم اتبعني فإنك تمشي مثلي. ففعل المريد ذلك، وتابعه أياماً، ثم خطر له (يقول الواعظ) أن يقول: (يا الله)، مكان قوله:(يا شيخي) فقالها فغرق في الماء، ومات. . .
فهل يشك مسلم في هذا الوعظ مخالف للإسلام مباين له؟ وهل يغضب الواعظ العالم الصادق أن ينتقد الواعظ الجاهل المُمَخْرِق الكذاب؟ أو ليس من دأب الواعظ الصادق أن يتقبل النصيحة ويشكر عليها ويعمل بها؟ وأن يتخلص من شرور نفسه قبل أن يتصدر للوعظ والإرشاد، حتى يكون الإسلام هو الذي يتكلم على لسانه، وحتى يتوهم السامعون أن ملكا هو الذي يعظهم، أو جسداً إنسانياً ضم روح ملك من الملائكة قد ارتفع عن شهوات الأرض ليتصل بكمالات السماء، وأنه لا يزهدهم في دنياهم ليحوزها من دونهم؛ فإن أنسوا