ذات مساء، وقد أوشك الليل أن ينتصف، راح يقص علي طرفاً من ذكرياته وحياته. . . وكان مسكنه في تلك اللحظة قد خلا إلا من صديقين: هو وأنا. وكان يطيب له في أوقات الصفاء أن يحملني على جناح الزمن إلى ماضيه، وأن يفتح لي في قلبه كوي أطل منها على عالمه. . . ترى أكان يحس في أعماقه أن غوائل الردى ستطوي حياة يريد أن يتركها بين يدي وديعة؟ لست أدري! كل ما أدريه أننا في تلك الليلة قد انتهينا إلى التحليق في سماء الشعر بعد أن أرهقنا الطواف حول أرض البشر. . وهناك ونحن في السماء، توقف عن الحديث ليسألني: ترى أي قصائدي النفسية أحب إليك؟ وأجبته في صدق يخلو من المجاملة:(الله والشاعر). . وسكت قليلاً ليحملني من جديد على جناح الزمن إلى ماضيه، إلى ذلك الجو النفسي الذي أملى عليه تلك القصيدة يوم أن كانت زهرة العمر تترنح تحت قطرات الندى المسكرة عند فجر الشباب. . وما أكثر تلك الأجواء النفسية التي كان يقصها علي مرتبطة بفنه، وما أكثر ما كنت أدفعه إلى ذلك دفعاً بنية المتعة والدراسة! وبهذا الرصيد النفسي المدخر أهيئ القول عن مفتاح شخصيته الإنسانية في واقع الحياة والفن، في ذلك الفصل الذي تطالعه بعد لفراغ من نقد الصور الوصفية في إطارها الحسي، وسيكون عنوانه:(حياته من شعره). . واليوم أقدم إليك الصورة النفسية الخامسة (الله والشاعر) هناك في الصفحة الثالثة والسبعين من (الملاح التائه):
لا تفرقي يا أرضي لا تفرقي ... من شبح تحت الذجى عابر
ما هو إلا آدمي شقي ... سموه بين الناس بالشاعر
طغى الأسى الداوي على صوته ... يا للصدى من قلبه الناطق