لعلك تذكر أنني أشرت عند الكلام عن منشأ الرواية إلى أن أصل المأساة هو تلك الأناشيد التي كان يغنيها القيان (الخورس) إجلالا لباكوس إله الخمر يوم عيده. وكلمة (تراجيدي) اليونانية لا تزال تحمل دليل هذا الأصل. فمعناها غناء الجدي، وهي مركبة من كلمتين:(تراجوس جدي، و (أودي غناء. وذلك لأن الجدي كان مخصصا للقربان في ذلك اليوم، ولأن القيان كن ينشدن تلك الأناشيد أثناء ذبحه. وقلت إن (إبيجين) وضع الحجر الأول في بناء المأساة، ولكن اسحيلوس (٥٢٥ - ٤٥٦ ق م) هو الذي صورها وسواها بخلقه الحوار؛ ثم أبقى على القيان، وبث في المأساة الرعب على الأخص، وجعل تصريف الأشخاص بيد القدر. وجاء سوفو كليس (٤٩٥ - ٤٠٥ ق م) فقلل من عمل القيان، وأضعف من شأن القدر، وعزا جزءاً من العمل إلى أهواء الإنسان وحريته، وأحكم العقدة الروائية. وأشهر مآسيه أنتيجون، وإلكتر، وأوديب الملك، وفيلو كتيت. ثم كان أوريبيذس (٤٨٠ - ٤٢٠ق م) فكاد يلغي القيان، وأخفى أثر القدر من رواياته، وجعل الأمر كله لتصارع الأهواء، وبث فيها الرحمة على الأخص. وأطلق عليه أرسططاليس اسم أمير المأساة. ولكنهم أخذوا عليه الإغراق في تعقيد العمل، والالتجاء إلى معونة الآلهة في الحل، وحشوه القطعة بالحكم الفلسفية. وأشهر مآسيه ألسست وهيكوب وإيفجيني وأوليس. ثم نضبت قرائح اليونان من المأساة بعد أوربيذس فلم ينبغ فيها منهم أحد.
أما الرومان فميلهم الغريزي إلى المشاهد الوحشية الدموية كمصارعة الوحوش والثيران أزهق فيهم روح الفن الروائي، وشغلهم عن إجادة المأساة. وما نسبوه من المآسي إلى سنيكا (٦١ - ٣٠ق م) ليس إلا تطبيقات مدرسية صيغت في أسلوب روائي. ثم درست معالم المأساة، وانقضى أمرها في العصور الوسطى، فلم تعد ثانية إلى الظهور إلا مع النهضة العامة في القرن السادس عشر. ظهرت في فرنسا واستمدت موضوعاتها من الأساطير