لم يبق في المعمور قطرٌ مهما يكن قصيَّا عن مناطق القتال، لم يصطدم بشظايا هذه الحرب، ولم يحمَّل عبء ويلاتها وشرورها. إنها لعمري حرب غريبة بفظائعها وأهوالها، خارقة بعددها ومعداتها، فاقت كل حدس وتخمين، وبزّت أقاصيص الجن وأساطير الأقدمين
فالتاريخ لم يرو لها مثيلاً في كثرة الضحايا واتساع الجبهات، وجُسامة التخريب والتدمير. لقد شملت نارها العالم بأسره، حتى أمسى لا يأمن مغبتها الطفل النائم في سريره، ولا الراتع في أحضان أمه، ولا المريض المستلقي على فراشه، ولا الشيخ القابع في داره، ولا الساكن مشارف الجبال، ولا العائش في بطون الأودية ومطاوي الأدغال
صدام فظيع هذا الصدام البشري الهائل الذي لم يبق ولم يذر. فالمدن التي يجتاحها يدعها قاعاً صفصفاً، والأرض التي يعركها يجعلها خراباً يباباً. كيف لا والسابحات في الجو تدك أمنع الجبال دكاً، وتهتك أوعر المفاوز هتكاً، والغائصات في اليم تقدّ بطن العباب قدّاً، وتبلغ أعمق الأغوار حداً. والقاطعات البيد تنهب أرذل القفار نهباً وتقطع موحش المجاهل قطعاً وهي تنشر الموت والدمار في كل مكان
فأين المفر من حرب طاحنة كهذه الحرب. أضرم نارها جنون الإنسان على أخيه الإنسان، وأثارها حرباً شعواء تقذف نيران الجحيم من آلاتها الجهنمية، فتتلف الضرع والزرع وتفتك بالإنسان والحيوان، وبكل ما هب ودب على سطح الأرض وما تمخض في أحشائها
خمسة أعوام تصرمت على هذه الحرب، أو تكاد تتصرم. تحمّل منها البشر ما لم تتحمله القرون، وبذلوا في ساحاتها الأرواح بالملايين، والأموال (بالبلايين) وضحّوا من تراث الحضارة ومن مخلفات الآباء وآثار الأجداد بما لا يقدر بثمن ولا يعوض بأجيال
والحرب دائرة بعد ما خمد أوارها، ولا خفّت نارها، وهي ما تزال مسعرة تتأجج لهيباً وتزداد ضراماً
أيود الإنسان الغافل أن يروي الأرض بالدماء، ويغمرها بالخراب. فيقضي قضاء مبرماً على أينع ما في الدوحة البشرية من مخضلّ الغصون. ويلوي على البقية الباقية من ذخائر الحقب ونفائس الدهر التي هي خلاصة العقل البشري ونتاج جهاده على مر العصور