للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من ليالي الملاح التائه]

في مخبأ الفيشاوي. . .

جلست أنا وصديقي شاعر الجندول في قهوة (الفيشاوي) عشية يوم الأحد الماضي نحتسي أقداح الشاي العنبري الهنيء، بعد إفطار من طهو رمضان الدسم المريء؛ وكان الظلام قد هب يتموج لطيفاً بين المصابيح الزرق كأنه ظلال الأجنحة الخفاقة في جو بنفسجي قاتم، والحركات الهامدة والأصوات الخاشعة قد أخذت تتخلص رويداً رويداً من فترة الصيام وسكرة الطعام، فهي تنتعش في البيوت، وتنتشر في الشوارع، ويقبل الناس على المقاهي فيلقون ثقل بطونهم على مقاعدها ليعالجوها بالأفاويه المنبهة والأشربة الهاضمة. وكان صديقي الشاعر قد طفق بعد شايه يكركر في شقته الأعجمية وقد انمحى من خياله السباح جندول البندقية وخمرة الرين وبحيرة كومو، فلم يعد يشعر إلا بعطر الشرق وسحر الشرق ونور الشرق، وتراءت له من خلال ما يجلوه الحي الحسيني على عينيه من مختلف الأجناس والألوان والصور. بقايا الملك الإسلامي العظيم، ودلائل المجد العربي الخالد، فلم يتمالك أن قال في لهجة تنم على الأسى والأسف:

- يا ضيعة الشعر ويا ضلة الشاعر إذا لم يُسجَّل هذا الملك في ديوان، ويُخلَّد هذا المجد في ملحمة!

وكان شعوري في تلك اللحظة يجري مع شعوره من غير تنبيه ولا توجيه، فقلت له على الفور:

- لو أن شعراءنا في الماضي والحاضر قد خلصوا كما خلصت أنت الساعة من أنانية الفكر وفردية الشعور لوجدوا في حضارتنا الزاخرة وتاريخنا الحافل أفانين عجيبة من الشعر القصصي توحد شتات الهوى وتكمل نقص الأدب؛ ولكنهم كانوا وما زالوا ينقلون عن ذاتية غالبة وطبع أثِر. فالقصيدة عواطف الشاعر لا تكاد تخرج عن دخائل نفسه ومدارج حسه، والأغنية لواعج المغني فلا تعبر المعاني العامة ولا تهتف بالأماني المشتركة. ولعل ملاحك التائه يُرسيه القدر الهادي على شطئان الشرق الجميلة فيقبس من شمسها نور إيمانه وأمانه، ويأخذ عن إلهامها سحر أوزانه وألحانه!

غصت القهوة على عادتها في ليالي رمضان بالسامرين من كل لون ومن كل طبقة، وكان

<<  <  ج:
ص:  >  >>