تحدثت إليك في فصل سابق عن البيان اللفظي ومنزلته من الشعر، وأنه من أهم ما تتفاوت به الشعراء في مراتبهم، وتتمايز به درجاتهم، كما تحدثت عن الاختلاف بين لغة الشعر والكتابة والخطابة؛ واليوم أتحدث إليك في المعنى، فإن المعنى هو قوام الشعر، والعنصر الأول من عناصره، بل هو الشعر نفسه؛ وما حرصنا على تحسين الألفاظ وتجميل العبارات إلا ليظهر المعنى في صورة فاتنة تجعل القلوب أشد قبولاً له، وأقوى تأثراً به، وينطبع في أذهان الحفظة والوعاة، ويخلد على ألسنة الرواة؛ فلا ينال منه تعاقب الزمن، ولا تمحوه عوادي المحن؛ وتلك هي ميزة الشعر التي اختص بها من دون النثر، وإلا فقد كان النثر كافياً في تأدية المعنى وإفهام الغرض؛ وكما أن الأصوات الغنائية المعروفة الآن بالأدوار لا تعمل عملها في النفس إذا تليت على الأسماع كما تتلى الرسائل، وألقيت كما تلقى الخطب، بل لابد من جريانها على قواعد الفن الموسيقي الجميل، وأدائها بالصوت العذب الرخيم حتى تبلغ في النفوس أثرها، وتفعل في المشاعر فعلها، فكذلك المعاني الشعرية لابد في تأديتها من حسن الألفاظ، وعذوبة العبارات، وجزالة التراكيب، وقوة النسج واطراده، وما إلى ذلك مما سأذكره بعد في هذه الفصول، ليكون أثرها في القلوب أبلغ، وعملها في النزعات والميول أقوى؛ وكما أن سوء الطبع والتحريف، وكثرة الخطأ والتصحيف، وتعمية الخط، ورداءة الورق في بعض الكتب قد تذهب بما حوت صفحاتها من علم غزير وفضل كثير وبحوث دقيقة وأفكار عميقة، فلا غرابة أن يذهب سوء التأدية وضعف النسج والإبهام في العبارات، والإسفاف في الألفاظ، يما يريده الشاعر من أغراض سامية ومعان جليلة؛ بل إن الصلة بين المعاني والألفاظ أشد وأقوى من الصلة بين الألفاظ والكتابة، إذ المعاني لا تؤدَّى بدون العبارات، وقد تؤدَّى الألفاظ مشافهة بدون كتابة. وقد غفل أو تغافل أو عجز عن ذلك بعض الشعراء في عصرنا، فاعتبروا المعاني كل شيء في الشعر، على ما في معانيهم من الضعف والمسخ وسوء تناولهم إياها، وقصور شاعريتهم عن تحويل المعنى الأصلي إلى معنى شعري، وقلة خبرتهم بكيفية وصفها في الشعر، وما إلى ذلك مما سأحدثك به عند الكلام على المعاني؛ ولم يعنوا بالألفاظ أقل عناية، موهمين