في شهر ربيع الأول من كل عام يقيم المسلمون حفلات الذكرى لميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فينصبون السرادقات، ويرفعون الأعلام، ويلقون الخطب، ويذيعون الأحاديث، ويكتبون الفصول، يشرحون للناس فيما يخطبون ويذيعون ويكتبون سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أو ناحية من نواحي سيرته، ويذكرون تشريعه وأحكامه وطريقته في التأديب وإنهاض النفوس وتهذيب الأخلاق. يذكرون أطواره التي مر بها بها في حياته قبل البعثة وهو طفل رضيع في بادية بني سعد، وهو غلام حدث يرعى الغنم بمكة، وهو شاب قوي جلد يسافر ويتجر، ويحضر حرب الفجار وحلف الفضول، ثم يذكرون دعوته وكيف بدأت سرية ثم كانت جهرية، ويذكرون ما ناله من أذى قومه واضطهادهم له، وتضييقهم عليه حتى أخرجوه من دياره وأمواله إلى المدينة، فكانت الهجرة، وكانت الحروب، إلى أن نزل قوله تعالى بعد ثلاث وعشرين سنة من مبعثه (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)
على هذا النحو يحتفل المسلمون بذكرى ميلاد الرسول في يوم أو أيام ويقولون إنها ذكرى (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين). ولقد كان المسلمون في عصورهم الأولى لا يعرفون احتفالا خاصا يقيمونه في مثل هذه الأيام بقصد إحياء ذكرى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يرون أن عظمته ليست من جنس هذه العظمات التي يألفها الناس في أفذاذهم ورجالهم، والتي يخشى عليها من الضياع والتلاشي في بطون التاريخ فيحتاج بقاؤها في أذهان الناس إلى ما يذكرهم بها في كل عام. كانوا يؤمنون أن عظمته خالدة، تظل دائما قارة في النفوس، ماثلة في القلوب، ممتزجة بالدماء، مؤاخية للعقيدة، تظهر في أقوالهم إذا نطقوا، وفي حركاتهم إذا تحركوا، وسكونهم إذا سكنوا. تظهر في جميع شئونهم الفردية والاجتماعية، السرية والعلنبة، الدنيوية والأخروية، إلى يوم البعث والجزاء، بل وفي النعيم الباقي الذي لا يفنى ولا يزول؛ فهي عظمة قد رسمت لهم باطن الحياة وظاهرها، وحدودها ودوائرها، لم تقف عند ناحية من نواحي الحياة، بل لم تقف عند حدود هذه الحياة الفانية