فشملت جميع نواحي الحياة، وامتدت إلى الحياة الآخرة فكشفت عن حجب غيبها وصورت ما يكون فيها للمحسن من نعيم، وما يكون فيها للمسيء من شقاء
لم تكن عظمته بانتصار في معركة، ولا برأي في علم، ولا بنظرية في أرض أو سماء، وإنما كانت عظمته عامة شاملة بهذا آمن المسلمون في عصورهم الأولى يوم كان الإيمان قويا في النفوس، تشتعل جذوته فتلتهب الجوارح وتبذل الأنفس، ويضحي بالدماء في سبيل ترسم خطى تلك العظمة والجد في معرفتها وتبينها من مصادرها ونشرها على العالم مهذبة نقية، كي تحيا بها النفوس وتطمئن إليها القلوب؛ وبذلك كانت جميع أيامهم، وجميع أوقاتهم ذكرى عملية لهذه العظمة
ذكرى عملية يتمثلون فيها مبادئه وأحكامه، وإرشاداته الحكيمة، ويسيرون على نهجها فكانت حالتهم مثالا صادقا، ومرآة صافية ترى منها عظمة الرسول لمن أراد من غيرهم معرفة عظمة الرسول
كانوا يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم وقد كرم الله قدره ورفع ذكره أرفع قدرا وأعلى شأنا من أن يكرم كما يكرم آحاد الناس بخطبة تلقى، أو حديث يذاع، أو فصل يكتب. كانوا يرون أن الله قد كرمه وليس بعد تكريم الله تكريم: خلد اسمه في كتابه الخالد؛ فذكره باسمه الصريح، وذكره بوصف الرسالة، وذكره بوصف العبودية لله الواحد، وذكره بعظمة خلقه، وذكره برحمته للمؤمنين، وبرحمته للناس أجمعين، وذكره بأنه المزكي للنفوس المعلم للكتاب والحكمة؛ وذكره بكل هذا كما ذكره بأنه شهيد على أمته، وبأنه صاحب المقام المحمود. ثم جعل محبته م محبته، وطاعته من طاعته، وبيعته من بيعته
لم يقف التكريم الإلهي لمحمد صلى الله عليه وسلم عند هذا الحد، بل جعل له ذكرا في الأولين إذ كتبه في التوراة والإنجيل، وجعل له ذكرا في الآخرين إذ قرن بينه وبين اسمه الكريم في كلمة التوحيد التي يكون بها المرء مسلما، والتي هي الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، وإذ جعل المناداة باسمه جزاءا من الأذان الذي يقرر في كل يوم خمس مرات بصوت مسموع إيذانا بالصلوات المفروضة وجمعا للمسلمين على عبادة الله. لم يكن بعد هذا كله ما يلتمس أن يكون تكريما لمحمد. ومتى كانت هذه العظمة تنسى حتى يذكر بها؟ ومتى كان هذا التكريم يخفى حتى نعمل على إظهاره؟