للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[قصة فتاة. . .]

يوم الاثنين ٧ مايو ١٩٤٥:

عرفت من بين الرسائل الكثيرة التي ألقيت إليّ صباح اليوم رسالة الآنسة (س) من غلافها الوردي الأنيق، فوضعتها ناحية ريثما أفرغ من بريد الرسالة، ثم عدت إليها فشققت كمامها عن أربعة أسطر تقول فيها: إنها حضرت القاهرة منذ يومين، وإنها ترجو أن تراني في الساعة الخامسة من مساء الخميس المقبل بمحْلى (جروبي) الجديد، وإنها ستضع مجلة (الرسالة) على المائدة التي ستجلس إليها، لتكون دليلاً عليها؛ فإننا تعارفنا منذ عام بالكتابة نفساً لنفس، ولكننا لم نتعارف إلى اليوم باللقاء وجهاً لوجه

كيف أفلتت هذه الفتاة الغريرة من ربقة التقاليد الصعيدية المحكمة فتركت عزبتها إلى المدينة، وبيتها إلى الفندق، وحديقتها إلى جروبي؟ هل أقدمت على ما كانت تسوله له نفسها الطموح من الانعتاق والانطلاق، فخرجت مما كانت تسميه (قبراً) لتدخل فيما كانت تسميه (دنيا)؟ سؤالان ألقيتهما على نفسي ورسالتها عالقة بيدي، وحياتها ماثلة في ذهني، فلم تدر نفسي ماذا تجيب. قد أستطيع بما نمت عليه رسائلها من أخبارها وأسرارها أن أخمن بعض الأسباب التي أقدمتها إلى القاهرة، ولكن بين التخمين واليقين ثلاثة أيام، فلأنتظر حتى ألقاها

ألقى إليّ البريد أولى رسائلها من الصعيد الأوسط في أوائل إبريل من سنة ١٩٤٤ حين سرى الروح الإلهي في همود الطبيعة فأيقظ الراقد وأنعش الخامد وأعلن المستكن. كانت في تلك الرسالة متهينة متحفظة، كالغريب الطارئ يقرع الباب بلطف، ويدخل البيت في استحياء، حتى إذا وجد من أهل الدار بشاشة القبول وكرم المثوى، علّق العصا وخلع المعطف. وما كان لكاتب نصب نفسه للتوجيه والإرشاد أن يذود عن بابه المفتوح فتاة تلتمس نفَساً من كربها وسندها لضعفها وسبيلاً لهداها

لم تقل في رسالتها القصيرة أكثر من أنها آنسة في الخامسة عشرة فقدت في السن الباكرة أبويها فكفلها أخوها. وأخوها على طباع أهل الصعيد شديد الحفاظ صارم النخوة لم يسمح لها بالمضي إلى غاية التعليم الثانوي فضمها إليه في العزبة. والعزبة حديقة تتوسطها دار يسكنها الأخ وزوجه وابناه الصغيران، ثم الدوار وبيوت الفلاحين يفصلها عن حمى المالك

<<  <  ج:
ص:  >  >>