وطالت غيبة (صْلَبي)، حتى لقد استيأست منه، فنسيته وطرحت همه عن عاتقي، وعدت أدور مع الحياة كما تدور الساقية، مغمض العينين، أطوف في مفحص قطاة، فلا غاية أبلغ ولا راحة أجد، أغدو إلى كدّ للعقل وعذاب النفْس، وجفاف الريق وانقطاع النفَس، وأروح، وما بقي فيَّ بقية لعمل، ولا طاقة على كتابة، فألقي بنفسي على كرسي أو سرير، أنتظر عذاب اليوم الجديد. . .
وإني لغادٍ إلى المدرسة ذات يوم، وإذا أنا بأعرابي في شملته يشير إليّ. . . وهو يسير بين تلك المواخير: تريانون وليدو ولوازيس - حائراً يتلفَّت. . . فقلت: لعلّه ضالٌّ أَحب أن يستهديني ووقفت له، فلما دنا وتبينته، لم أملك من الفرح فمي. . . فصحت في السوق وسط الناس. ومالي لا أصيح وقد وجدت (صلبي) بعد طول الغياب. . . وحييته وحياني تحية ذاكر للصحبة، حافظ للود، وطفق يحدثني حديثه. . .
قال:
أتذكر يا شيخ ما ابتلاني به الله من أمر الحمام؟ لقد وقعت في داهية أدهى. . . ولقد والله كرهت الحضر، وعفت المدن، وأصبحت أخشى فيها على نفسي، فما أدري ماذا سيكون من أمري بعد الذي كان؟. . .
. . . قدمت الشام قدمة أخرى، فكان أول ما صنعت أن قصدت صاحبي، وكنت قد عرفت داره في (الميدان). . . فأكرمني وأحسن استقبالي، أحسن الله إليه، وذبح لي خروفاً، ولم يكتف بذلك من إكرامي بل أزمع يأخذني إلى سنمة. . . قلت: ولكني لا أعرف سنمة هذا، ولا أدري من هو، فكيف تأخذني إليه؟ قال: لا بد من ذلك. فاستحييت منه وكرهت أن أخالفه بعد الذي قد صنع في إكرامي. . . وقلت في نفسي: لولا أن سنمة هذا صديق له، عزيز عليه، ما سار بي إليه. ولقد قال المشايخ من قبيلتنا: صديق صديقك صديقك. . . فرضيت وقلت له: على اسم الله!
ولكن الرجل لم يسر بل أدركه لؤم الحضر فصاح بابنه أن هات الجرائد حتى نرى الرواية، فتوجست خيفة الشر، وقلت: إن الرجل قد جنَّ، وإلا فما بال الجرائد؟ وهل تراه