دخلت مخزناً أمس أشتري منه شيئاً، فسمع لهجتي الشامية شيخ هم كان هناك، أبيض الشعر كأن رأسه ولحيته الثغامة، فإلتفت إلي وقال:
- أنت من دمشق؟
- قلت: نعم.
فسطع على وجه نور، وبرق في عينيه بريق، وبدت على جبينه ظلال ذكريات حلوة، مرت في رأسه، وأخذ بيدي هاشاً لي باشاً بوجهي، فأقعدني معه، وقال لي:
أهلاً بك، أهلاً وسهلاً، تشرفنا يا ولدي، فتعال. تعال حدثني عن دمشق، فقد طال عنها ابتعادي، وزاد إليها اشتياقي، حدثني عن سهلها وجبلها، عن غوطتها وربوتها، عن (الميزان). ألا يزال الميزان مثابة الطهر، ومعبد الجمال، وجنة الدنيا؟ ألا يزال السراة والتجار يصلون الصبح كل يوم ويخرجون إليه، يقضون فيه حق النفس بالتأمل، كما قضوا في المساجد حق الله بالصلاة، فيجمع الله لهم الجنتين، ويعطيهم نعيم الدارين؟ ألا يزال زاخراً بحلق الأحباب، وجماعات الصحاب، عاكفين على (سماورات) الشاي الأخضر (وسكى) المسلمين، يشرفون على (قنوات) و (باناس) وهما يخطران على العدوة الدنيا متعانقين متخاصرين فعل الحبيبين في غفلة الرقيب، يمشيان حالمين خلال الورد والفل والياسمين، كزوجين في شهر العسل، يظهران حيناً ثم تشوقهما الخلوة، فيلقيان عليها حجاباً من زهر المشمش والدراقن والرمان، وعلى العدوة القصوى زوجان آخران حبيبان، يمضيان يتناجيان ويتخالسان القبل:(يزيد) و (تورا)؟ وبردى! ألا يزال يدب في قرارة الوادي على عصاه، ينظر باسماً إلى بنيه ثم يلوي عن مشهدهم بصره، وينطلق في طريقه لا يبالي. عاف الحب ومل الغرام، وعلمته تجارب العمر، إن كل ما في هذه الحياة باطل، إلا ذكر الله والعمل للآخرة، كله لعب ولهو متاع زائل؟ وقاسيون الجد العبقري الذي عاش عشرة ملايين سنة وما أنفك شاباً، وشاخ أبن أخيه بردى ولم يشخ، ألا يزال قاسيون قاعداً قعدة ملك جبار، قد رفع رأسه ومد ذراعين له من الصخر، فأحاط بهما دمشق وغوطتها، من الربوة إلى برزة، ووطأ لها ركبته فنامت المدينة عليها، كما تنام الحبيبة إن أضناها