للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

على هامش السيرة

حفر زمزم

للدكتور طه حسين

- ١ -

كان عبد المطلب سمح الطبع رضي النفس سخي اليد حلو العشرة عذب الحديث. وكان عبد المطلب أيضاً قوي الإيمان تملك قلبه وتسيطر على نفسه نزعة دينية حادة عنيفة، ولكنها غامضة، يحسها ويخضع لها، ولكنه لا يتبينها ولا يستطيع لها فهما ولا تفسيراً. أبوه من مكة حيث التجارة والثروة، وحيث المكر والدهاء، وحيث الوثنية السهلة التي لا تحرج فيها ولا مشقة. وأمه من يثرب حيث الزراعة والصناعة اليسيرة، وحيث اليهودية تجاور الوثنية فتضعفها وتنقص من ظلها وتكاد تمحوها، وحيث الأخلاق اللينة والشمائل الحلوة وحيث الظرف ونعومة الحياة.

ولد في يثرب ومات عنه أبوه فلم ينقله الى مكة فنشأ بين أخواله وتأثر بحياتهم وتخلق بأخلاقهم وسار سيرتهم حتى بلغ الشباب أو كاد، ثم أقبل عمه فأنتزعه من إقليمه السهل الهين الى إقليم أخر صعب عسير، تجدب فيه الأرض ولا تبتسم له السماء الا قليلا. يرحل أهله الى الآفاق. فهم يأخذون من الناس ويعطونهم ويبادلونهم الأخلاق والشمائل كما يبادلونهم المنافع وعروض التجارة، ولعل أخلاق يثرب وخصال مكة قد اختصمت في نفس هذا الغلام، ولعل اختصامها قد طال، ولعل اختصامها قد قصر. ولكنها على كل حال قد انتهت إلى شيء من الاعتدال آخر الأمر. فلم يكتمل الفتى شبابه حتى كان فتى من قريش، ولكنه يمتاز من بقية فتيان قريش. فيه ذكاؤهم وفطنتهم وفيه إباؤهم وعزتهم ولكن. فيه دعة لم تكن مألوفة عندهم، وفيه شدة في الدين قلما كانوا يرضونها أو يبسمون لها. على أن خصلة أخرى ميزته منهم أشد التمييز، فلم يكن يصدر في حياته، كما كانوا يصدرون عن الروية والتفكير وطول التدبر، وإنما كانت تدفعه الى العمل والاضطراب في الحياة قوة خفية يحسها ويأبى عليها ويغلو في الإباء، ولكنه يضطر الى أن يذعن لها ويصدع بأمرها،

<<  <  ج:
ص:  >  >>