امتدت الممالك العربية في أيام الدولة العباسية، والكنيسة حينئذ في أول عهد نفوذها، وما قويت شوكة الخلافة في بغداد، حتى هدأت الزوابع السياسية التي كانت شديدة في أيام بني أمية، وانصرف هم الخلفاء إلى نقل العلوم اليونانية والزيادة عليها. وأقول كما قلت في أمر الكنيسة، إن العرب تلقنوا هذه العلوم، وخصوصاً علمي الهيئة والنجوم من اليونان، لكنهم شرحوها شرحاً أقرب للحقيقة مما شرحته الكنيسة. والسبب في ذلك واضح، لأن الكنيسة كان غرضها الأكبر من تفسير العلوم اليونانية المحافظة على مقامها وتعاليمها لدى الشعب، فأبقت العلوم لديها مختلطة بالدين أو جزءا منه. لكن العرب لم يختلط عندهم العلم بالدين اختلاطه عند الكنيسة، فكان ما نقلوه وزادوا عليه هو لأسباب علمية بحتة، وأيضا لم يكن عندهم هيئة خاصة كمحكمة التفتيش تحاسب الفرد على اعتقاده ودينه.
لكنا إذا سلمنا بكل هذا، فلماذا لم يحدث الانقلاب العلمي في أيام العرب؟ أي لماذا لم يتوصل العرب إلى حل رمز هذا الكون الجليل بطريقة تبين اعوجاج النظام اليوناني؟ نذكر لذلك سببين:
لما ابتدأ العالم العربي في نقل العلوم كان ذلك فقط في أيام المأمون في أوائل القرن التاسع للميلاد، أي في بداية العصر العباسي الثاني، ونعلم إنه قبل القضاء على الخلافة العباسية في القرن الثالث عشر للميلاد قامت دول شتى في كل أنحاء البلاد فعمت الفوضى وكثرت القلاقل والحروب، فلم يستتب السلام في أيام بني العباس إلا مدة قصيرة جداً. أي أن الوقت لم يكن كافياً للعرب ليقوموا بانقلاب أو تجديد في العلوم اليونانية، فإذا قابلنا مثلاً المدى الذي تطورت فيه حضارة اليونان بالمدة التي قام فيها العرب بنهضتهم العلمية وجدنا الفرق كبيراً. فلو اقتصرنا ببدء حضارة اليونان من عصر تاليس وبيتاغوراس فقط في القرن السادس قبل الميلاد، إلى عهد بطليموس وبوكليد في القرن الثاني بعد الميلاد لوجدنا المدة تقرب من الثمانية قرون. أما عند العرب، فيمكن أن يقال إن ترجمة العلوم اليونانية ابتدأت فقط من العصر العباسي الثاني، أي في ابتداء القرن الثالث للهجرة، وبقيت حتى أواخر