الأدب في كل أمة غذاء النفوس من كدر المادية المُبْرَأَة من أمراض الطمع والجشع، السالمة من إسار المكايد والخدائع؛ والأدباء في كل شعب هم الطبقة الرفيعة في المراتب البشرية، المحلقة في سماء الصفاء بأجنحة لطف ارق من الهواء. والمادية لا تؤمن بدين الأدب ولا عطف لها على البشرية ولا رحمة، فالأديب نورانيّ والمادة بهيمية ترجع بالإنسان إلى عصور كان ينازع فيها الوحوش فرائسها، وبعد الشبع والري من الدنيا نفائسها؛ وكلما رقى العقل في الصناعات انخفضت العاطفة واستبدت المادية واستحكمت الوحشية، فلولا الأدباء بين الناس كالنجوم الزهر في السماء الدنيا لبدا ليل المادية اشد ظلاماً وأهول منظراً. ولعله سيأتي زمان يتخفى فيه الأدباء كما كان الأنبياء يتستّرون من الناس في أول الاستنباء، ورأس المحنة وأيام الدعوة، خشية الاستهزاء والإزراء والتعذيب والتقتيل، وإذن لا يعصم الأدباء يوم ذاك من ضربة المادية إلاّ شبه جمهورية أفلاطون وإلا مثل المدينة الفاضلة التي أفكر فيها فيلسوف فاراب. أما ما فعله الشيوعيون لأدباء الشيوع في روسيا من قصرهم في قريةٍ نزهةٍ وإمدادهم بضروري المادة ليستهتروا بالاستشاعة ويدعوا إلى التشارك فهو أخلق بالأدب المبتذل والشعور المنتحل والعواطف المعطوفة والنفوس المأسورة والانفعالات المكبوته، فما أغنى الشيوعيين عما فعلوا وما كان أحرى الأدباء بالإباء على هذا الازدراء! وكلما علت امتاز الأدباء عن أهل المادة وعبدة الحيوانية، فيعيشون منفردين معتزلين كالمتصوفة في الربط الهادئة إلا من تسبيح وتحميد، وكالرهبان في الأديار الواجمة إلا من تكفير وارتسام، يزرعون فيحصدون ويغرسون فيجتنون، لا تجارة تلهيهم ولا تكالب يقسيهم ولا انخداع يؤذيهم، فهم حينذاك صفوة الصفوة، وأيتام الإنسانية وملائكة البشر، يضيع أحدهم بين الناس كما يضيع إذا هبط بين البشر، بل هو أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، فويل لأهل الأدب من شر قد اقترب.
الأدب عدوّ المادة، والمادة غائلة الأدب. وأعني بالأدب في كل ما أسلفت من القول (مولدات العواطف ونتائج العقول من وصف حزين وأسباب حزنه، ونعت فرح وأسباب فرحه، مزخرفاً ببدائع الكون، أو مطلياً ببهرجه وغلوائه، ممهداً له بوصف الجمال وذكر