كان الأديب الفرنسي ملرو نائماً كاليقظان، أو يقظان كالنائم، ولا تجد في ذلك شيئا من الغرابة، فنوم الأدباء البارعين يقظة، لأنه مملوء بالأحلام التي قد تكون من الصدق والدقة، ومن الخصب والإنتاج بمنزلة لا يبلغها الحق نفسه في كثير من الأحيان. ويقظة الأدباء نوم، لأنهم يشغلون فيها عما يحيط بهم من هذه الحقائق الممكنة الواقعة بما يملأ رؤوسهم من هذه الخيالات والأوهام التي تدنو من نفوسهم حتى تصبح كأنها جزء منها، وتبعد عن متناولهم حتى تصبح كأنها النجوم وهم يعجبون بقربها منهم فيطمعون فيها ويطمحون إليها، وهم يشفقون من بعدها عنهم فيحلون في طلبها ويجدون في إدراكها، ويكلفون في بلوغها أعنف الجهد وأشق العناء.
كان الأديب الفرنسي ملرو إذن نائما كاليقظان، أو يقظان كالنائم. كان في ساعة من هذه الساعات الحلوة التي يقضيها الأدباء مستمتعين بلونين من الحياة، أحدهما مختلط مضطرب شاحب، وهو لون الحياة الواقعة. والآخر واضح جلي ناصع، وهو لون هذه الحياة التي يحيونها بين الخيالات والأوهام. وانه لفي ذلك وإذا غانية حسناء رائعة الحسن، جميلة بارعة الجمال، غريبة الزي، لم ير مثلها قط فيمن رأى من غانيات باريس، وفاتنات غير باريس من المدن الأوربية التي زارها بل لم ير مثلها فيما رأى من الصور والرسوم التي تنقل للناس ما حفظته ذاكرة التاريخ القديم والمتوسط والحديث من ملامح الغانيات وأشكالهن وأزيائهن، وكانت تتراءى له من بعيد لا يكاد يراها حتى يفقدها، ولا يكاد يفكر فيها بعد فقدها حتى تتراءى له من جديد، فلا يكاد ينظر إليها حتى تستخفي، ولا يكاد يستأنف التفكير فيها حتى تبدو. وكانت إذا تراءت له ملأت الجو من حوله عبيراً وعرفا لم يحس مثلهما قط فيما أحس من الأعطار المصنوعة ومن الاعطار الطبيعية، ومن شذى الرياض وعرف الغابات، وكانت إذا استخفت ذهب معها هذا العبير، إلا بقية ضئيلة تضطرب في الجو، كأنها البقية الضئيلة من شعاع الأمل. فكانت نفس الأديب الفرنسي ملرو تتعلق بهذه البقية الضئيلة من العبير، كما تهيم بهذا الشخص الجميل الرائع الذي كان يبدو ويستخفي في سرعة كوميض البرق. ولو أن هذا الخيال عرض لرجل مثلك أو مثلي