على هذا النحو وهو نائم لأيقظه، أو عرض له وهو يقظان لذاد عنه كل وهم أو خيال، ولدفعه إلى حياة عنيفة متنبهة تشبه الجنون. ولكنه لم يعرض لك ولم يعرض لي، وإنما عرض للأديب الفرنسي ملرو. ولهذا الأديب قوة ساحرة فيما يظهر، تمكنه من مقاومة الحق الذي يوقظ النائمين، ومن مقاومة الوهم الذي ينيم الإيقاظ، وتمسكه في حال بين الحالين، ومنزلة بين المنزلتين، فإذا هو نائم كاليقظان ويقظان كالنائم. وقد دعا إليه سحره هذا، فأعانه السحر على أن يظل على الحدود بين المملكتين مملكة اليقظة، ومملكة النوم. مملكة الحقيقة الباطلة التي يضطرب فيها مثلك ومثلي من الناس، ومملكة الخيال الصادق التي يضطرب فيها الأدباء والشعراء، وظل في مكانه يرى هذه الجنية، ويتنسم عبيرها إذا ظهرت له، ثم يتعلق بما بقى من نشرها ويهيم بخيالها إذا غابت عنه، وكأن هذه الجنية كانت تريد أن تعبث بالكاتب الأديب ساعة من نهار أو ساعة من ليل، وما أكثر ما تعبث الجن بأبناء الإنسان. ولكن الأديب الفرنسي ملرو، كان من البراعة والمهارة، ومن السحر واللباقة، بحيث استطاع أن يعبث بهذه الجنية الماكرة الماهرة، وأن يكرهها على أن تبيح له سرها، وتلقي عنه ما بينها وبينه من الأستار. واكبر الظن أن الأديب الفرنسي ملرو، إنما تعلم هذا الفن الذي يستغوي به الجن من رياضة بسيطة، ما اجدر أدباءنا وشعراءنا أن يتكلفوها ويأخذوا أنفسهم بها، وهي رياضة الصيد في الأنهار والغدران. فهذه الرياضة تحتاج إلى صبر طويل، طويل جداً، والى لباقة ودقة قلما تحتاج إليهما الرياضات الأخرى، وقد يمكث الصائد على شاطئ الغدير ساعات طوالا جداً، ينتظر الصيد فيصيبه أو لا يصيبه، ولكنه لا ييأس على أية حال.
ظل الكاتب الأديب ملرو، في حالة هذه بين الحالين، وفي مقامة هذا بين المملكتين، وظلت الجنية تبدو له فيستقبلها، وتغيب عنه فيتبعها، حتى سئمت منه هذا الصبر، وضاقت منه بهذا الثبات، واستيأست من ترويعه والعبث به، فوقفت منه غير بعيد وحدقت فيه تحديقا طويلا، لو حدقته في رجل مثلك أو مثلي لملأت قلبه رعبا، ولدفعته إلى الجنون دفعا، ولكن الأديب الفرنسي ملرو ثبت لمنظرها الجميل، وتحديقها الطويل، مبتسما في هدوء، ينظر إليها ولا يقول لها شيئا. وأخذت هي تدنو منه وتطيل النظر فيه، وهو ثابت لا يضطرب، ومستقر لا يريم، حتى إذا كانت منه بمكان النجى، سألته في لغة غريبة لم يسمع لفظها قط،