سؤال طالما وقع في رَوع النبيين والمصلحين والفلاسفة ممن يملكون القول والدعوة، ولكنه لم يدرْ أبداُ بخلد الأمير فلان والباشا علان والبيك ترتان ممن يملكون الفعل والتنفيذ. ومن بدائه العقل أن يفكر الأنبياء والحكماء في معضلة الفقر، فإنهم نشأوا في مهده الخشن، ودرجوا في فنائه الضيق، وعاشوا في مرعاه الجديب، ورأوا بأعينهم العَبْري أثقال العيش تنوء بالظهور الضعيفة فتسقط في طريق الحياة عرضة لزواحف الرذيلة وجراثيم المرض. ومن بدائه العقل كذلك أن تبقى معضلة العقر من غير حل يطهر الأرض من سمومه، وينقذ الناس من همومه؛ فإن أرباب الحكم والتشريع والتنفيذ هم من سلائل النعمة وكناز المال، فلا يخطرون ببالهم الفقر، ولا يحبطون في حبالهم الفقير؛ وهم يظنون إذا محا الإحسان الفاقة، ونفي التعليم الجهالة، أنهم لا يجدون الخدم ولا يملكون العبيد؛ والجاه من غير أذلاء زفة من غير نظَّارة، والمال من غير فقراء مُلك بلا رعية من أجل ذلك كان الفزع إلي الأقوياء والأغنياء من عوادي الفاقة تزييفاً على الطبع وتكليفاً بالمحال. ومن أجل ذلك كان تنظيم العلاقة بين القوة والضعف، والغنى والفقر، عملاً من أعمال الله وحده، يرفِّه عليه النفوس، ويرفع به الإنسانية، ويجِّمل به الحياة. فإذا حاربنا الفاقة بسلاح الاقتصاد المحض كسنِّ النظم، وتوسيع الموارد، وتوزيع العمل، وأغفلنا أثر الحظوظ والميول والأحوال والأمراض في حياة المرء، قتلنا الفقر بقتل الفقير، كما يقتل الطبيب المرض بقتل المريض. إنما يحارَب الفقير بسلاح الدين ليس غير. وسلاح الدين في مجاهدة البؤس أنه يجعل للفقير في مال الغني حقاً معلوماً لا يصح إسلامه إلا باعتقاده وأدائه؛ وأنه يقوي الإنسانية في الإنسان حتى يشعر بالأخوة لكل مسكين، وبالرحمة لكل بائس. وبقوة الإنسانية وحدها في الدول المتدينة كإنجلترا وأمريكا أوشك البؤس أن يزول، فوجد كل مريض مستشفى، وكل هَرِم ملجأ، وكل يتيم مدرسة. وقد بلغ ما أنفقته الحكومة الإنجليزية على أعمال البر في سنة من السنين ثلاثمائة مليون جنيه، ولا يقل ما يتبرع به الشعب البريطاني للمستشفيات وحدها عن خمسين مليون جنيه في العام!
الدين هو الطب الوحيد لأدواء المجتمع؛ فإذا غرستموه في قلوب النشء، وقويتموه في نفوس الشباب، جعل من الأمة أسرة متماسكة البناء، متضامنة الأعضاء، يعين سعيدها الشقي، ويحمل قادرها العاجز، حتى يقطعوا مراحل الحياة رافهين لا يمسهم نصب، ولا