. . . وبعد أيام أخذ الرفاق يتهيئون للسفر، وراح الفتى يعد نفسه للسفرة الجبلية. وانطلق الركب إلى الإسكندرية يحدوه الأمل ويدفعه الرجاء، وفي النفوس النشوة والمتاع، وفي القلب المرح والشباب.
لقد طاروا جميعا إلى الإسكندرية ليتخففوا من عبء اليأس الذي يواري السوءة ولينفضوا أغلال التقاليد التي تسمو بالكرامة، وليضعوا عن أنفسهم أصر الأخلاق التي هي سمة الإنسان، وليندفعوا في خضم من الحيوانية الجامحة لا تغسلها إلا عبرات الشتاء حين تنهمر مدرارا لتمسح على دعارة الصيف وفجوره.
أما صاحبي. . . الفتى الساذج الذي عاش عمره في سجن من حديد. . . أو سجن من ذهب لم يبل الفضاء ولا عرك الحياة، وطوى زهرة الشباب يرسف في أغلال ثقال من الدين. . . الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفوس الخنوع وينفث في الروح الخوف ويقيد الهمة بالاستسلام. . . أما صاحبي هذا فقد أذهلته الحياة وهي تضطرب حواليه موارة تزخر بصنوف من العيش الوضيع فتقززت لها نفسه ونفرت منه روحه، وبدت له دنيا الشاطئ سوقا تعرض فيها المباذل في غير خجل ولا استحياء. وشعر بأنه هنا غريب يحس الضيق والملل لأنه لا يستطيع أن ينسى تأريخه فينغمر في هذا الخضم وقد دنسته الخطيئة ولوثته الرذيلة، ولا يستطيع أن يطوي أيامه وحيدا على هامش الحياة. وحدثته نفسه - غير مرة - بأن يطير عن هذا الجو الذي يخنق الفضيلة ويقتل الشهامة، غير أن رفاقه كانوا يمسكونه أن يفعل فيستخذى لهم في ضعف ويستسلم في فتور.
يا عجبا! لقد فزع الناس إلى الشاطئ يطلبون - كرأيهم - الصحة والعافية والجمام، أما هو فقد جاء ليقاسي ألم الضيق ويعاني أذى الوحدة.
وخشي الرفاق أن تسري فيهم روح هذا الفتى فتنسرب إلى نفوسهم خواطره فيحسون