للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[في الأقصر. . .]

- ٢ -

وقف القطار ضحى على محطة الأقصر. وأخذ الحجيج المدني يخطو على أفرزيها ذابل الأجفان، خاثر الأبدان، من تكسير السهاد أو تفتير الوسن. وكان قوم يستقبلون زوار الآثار، وقوم يستقبلون أطباء المؤتمر، فتدفق الركب المتجمع لدى الباب في وجهتين مختلفتين، وذهب بنا أولياء القطار إلى موائد الإفطار، فأصاب منها من أراد على قدر شهوته، ثم قسمونا إلى قسمين: قسم يزور (طيبة الأحياء) في الشرق، وقسم يزور (طيبة الأموات) في الغرب. وهل بقي لعمري في طيبة اليوم أحياء أو أموات؟! لقد ذهب الموت منذ بعيد بأحيائها إلى القبر، وذهبت الحياة منذ قريب بأمواتها إلى المتحف! فلم يبق منها على عدوتي الوادي غير أنقاض طفت على وجه القرون، وأبعاض بينها وبين الفناء صراع لا يفتر!

الأقصر مدينة رقيقة الحال تقوم على أطلال طيبة منا تقوم أعشاش الطيور على شُم الصخور! تسير في شوارعها القروية، وبين منازلها المتنافرة، فلا يستبي طرفك منظر فاتن، ولا يزدهي لبك مظهر غريب، فإذا استثنيت (ونتربالاس) وما تألق من الفن في فنائه وأبهائه، ومرفأ النهر وما ترقرق من الحسن في ظله ومائه. وشارع السلطان حسين وما تنسق على حفافيه من نخله وكهربائه، والجو الفاتر وما شاع من القوة في شمسه والحياة في هوائه، وجدت بلداً كأحقر بلاد الناس يعيش حاضره على ماضيه، وتذهب عينه على آثاره! ولكن وَلِّ ظهرك حضارة الأحداث، وتعال نسر وراء العم (ضاوي) في طريق الكرنك. وبين الأقصر والكرنك مدى من الزمان والمكان يتسع فيه الخيال ويسبح في أعماقه الخاطر. ومن الذي يستطيع أن يجول في مسارح الجبارين دون أن يتمثل هذا الفصل الذي افتتح به الأزل رواية العالم؟

فهنا منذ بضعة آلاف سنة نبتت في ظلال هذه الجبال إنسانية باكرة ترسل النظر الثقيل البطيء في هدوء واستقامة وبعد. ويصور لها عقلها الطفل ألوان التعاجيب والتهاويل من قوى الطبيعة الخفية، فتنحت الجبال قبورا، وتبتني الصخور قصورا، وتقيم لآلهتها الغلاظ من صم الجلاميد تماثيل ومحاريب يتضاءل أمامها الفن الحديث؛

<<  <  ج:
ص:  >  >>