(وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع ١٩٣٥
لفتح طريق الحج البري للسيارات)
للأستاذ علي الطنطاوي
إن من دأب العادة أنها تضعف الحس، وتذهب بالانتباه. فالغني الذي يلبس الحرير، وينام على السرير، ويركب السيارات، ويملك (العمارات) لا يجد لذلك كله من اللذة ما يجد الفقير المعدم، والبائس المحروم إن نال مثله، والشبعان لا يدرك اللذة التي يتوهمها الجائع، والصحيح لا يعرف لنعمة الصحة قدرها إلا إذا مرض، فلا لذة في الدنيا إلا في التنقل والتبدل، وألاّ تحمد على حال مهما حسنت في ذاتها. وهذا ما أراده الشاعر حين قال:
ولذيذ الحياة ما كان فوضى ... ليس فيه مسيطر أو نظام
من أجل ذلك أحسسنا حين ذهبنا إلى غداء الأمير، ورأينا عادات لم نألفها، وطرائق في الطعام لم نعرفها، بلذة التبدل، والاستمتاع بالجدة، فما كاد يستقر بنا المجلس حتى أقبل العبيد فمدوا سماطاً على الأرض، ووضعوا عليه قصعة هائلة كان يحملها منهم اثنان، وقد ملئت رزاً وألقى فوقه خروف كامل بيديه ورجليه ورأسه، إي والله. . . كأنهم (والله أعلم) خافوا أن نشك فيه فنحسبه دباً أو فيلاً أو قطاً، فأبقوا على الرأس دليلاً قاطعاً على أنه خروف أصيل من أمة الضأن
وكان الخروف مفتوح العينين، ناعس الطرف، فأخذتني الشفقة عليه، وتوهمت أنه ينظر إلينا، وأنه. . . . . . ثم رأيت أن لا مجال للوهم ولا للخيال، وأن الوقت لا يتسع للأدب، لأن القوم أحدقوا بالقصعة وشمروا عن سواعدهم، ونظروا شزراً فعل من يقدم على معركة، فخشيت أن يذهبوا بالرز واللحم، ويبقى لي الخيال والوهم، ومتى أفاد الخيال جائعاً، أو أجدى الأدب على إنسان؟
وكان أصحابنا يدورون بعيونهم يفتشون عن ملعقة أو سكين أو شوكة فما وجدوا شيئاً من ذلك؛ وأبصروا القوم يأخذ أحدهم قبضة من الرز، فيديرها في كفه، ويعصرها، حتى يقطر منها السمن، ويحركها كما يحرك اللاعب الكرة قبل قذفها، حتى إذا اطمأن إلى أنها صارت