من رحلة قام بها الأستاذ سنة ١٩٣٣ إلى تركية والعراق وأفغانستان
إلى بحر الخزر
قمت من طهران شمالا صوب بحر الخزر، مسافة ستين فرسخاً أو نحو أربعمائة كيلومتر، كانت المناظر في النصف الأول منها مألوفة:
ربى تتوسطها هوى من ارض مهملة، وما كدنا نوغل في النصف الأخير حتى زادت عقد الجبال في صخرها الاغبر المنحل وغالبه من الجير الذي اسود بمضى السنين، وكثرت الالتواءات الأرضية وزادت طياتها وأخذ الطريق يعلو ويهبط ويلتوي على نفسه مرات متعاقبة في وعورة لم نعهدها من قبل. بعد ذلك بدأت صفحة الجبال المعقدة تتغير معالمها إذ كساها الشجر القصير في تفرق أعقبه تلاصق عاجل، وما نشعر إلا ونحن نوغل في غبابة كثيفة ذكرتني بمناطق الغابات الافريقية، وكنا بجانب وادي نهر يسمونه (النهر الأبيض) يتلوى ليات متعاقبة وسط تلك الجبال اللا نهائية، وكان ماؤه آسنا إذ يفيض بالماء إبان الشتاء حين تكثر الثلوج التي تكسو تلك الجبال - جبال البرز - ولقد ظلت المناظر رائعة ساحرة خلاف ما عهدناه في ربى إيران المنفرة التي عريت عن النبت، ونضبت مياه مسايلها، وكانت بعض الوهاد وما يزينها من قرى صغيرة أشبه ببلاد اسكندناوه وسويسرة، علىأن الشجر مختلف إذ لم أر للصنوبر من أثر حتى في أعالي الذرى، وكله من أشجار المناطق الحارة تكثر حوله الطفيليات والأعشاب المتسلقة التي تسد الغابة سداً ولذلك يطلق عليها القوم كلمة (جنجل) الإنجليزية، وكلما قاربنا بلدة (الرشت) بعدت الجبال وانفسح السهل وغص بالقرى والمزارع التي شهرت من أجلها البلدة وبخاصة في الأرز والطباق، وهذه الناحية أشهر بلاد فارس الزراعية. أخيراً دخلنا الرشت التي كانت عاصمة بلاد الديلم قديما، وهي اليوم عاصمة مقاطعة (جيلان) الفارسية فبدت مدينة عامرة أخف روحا من طهران نفسها، وقد حاكت المدن الأوربية، ويظهر أنها تأثرت طويلا بالروس يوم كان لهم النفوذ في هذه المنطقة، لذلك كانت جموعهم كثيرة، نساء ورجال واللغة الروسية يعرفها الجميع إلى جانب لغتهم الفارسية. وغالب البيوت من طابق واحد تظهر وكأنها أقيمت كلها