كان أذان الفجر يصعد من مآذن الحرم في مكة في أول يوم من رمضان سنة أربعين ومائتين للهجرة، فيهبط على تلك الذرى المباركات من قعينقاع وأبى قبيس، فينساب مع نسيم السحر رخياً ناعشاً، يسحب ذيوله على تلك الصخور التي كانت محطة بريد السماء، ومنزل الوحي، ومنبع رحمة الله للعاملين، حتى يمسح ستور الكعبة، فيتنزل على من في الحرم تنزل النفحات الإلهية على قلوب عباد الله المخلصين. . .
وكانت صفوف المؤمنين قائمة للصلاة تدور بالكعبة من جهاتها كلها، صفوف في الحرم ترى الكعبة وتنعم بالقرب منها، وصفوف لا تراها ولكنها تتوجه إليها، وتبصرها بقلوبها، وتقوم وراء الجبال الشم والبحار، في المدن والقرى، والصحارى والسهول، والأودية والقمم، في القصور والأكواخ، والسجون والمغائر، في القفار المشتعلة حراً، والبطاح المغطاة بالثلج. . تتسلسل وتتعاقب لا تنقطع ما امتدت الأرض وكان فيها مسلمون.
وأم أهل مكة الحرم، ولم يبق في داره إلا شيخ في السادسة والثمانين، وإن محطم ما عليه إلا قميص مشدود بحبل، وقاموا للصلاة ما يستطيعون الوقوف مما حشوا به بطونهم من طيبات الطعام، من كل حلو وحامض، وحار وبارد، وسائل وجامد، ووقف يصلي وما يستطيع القيام من الجوع، فقد امسك للصوم بلا سحور، ونام ليلته البارحة بلا عشاء، وأمضى أمسه من قلبها بلا غداء. . . فلما قضى صلاته قعد في محرابه منكسراً حزيناً، وما كان يفكر في نفسه فلقد طال عهده بالفقر حتى ألفه، وهون إيمانه عليه الدنيا حتى نسى نعيمها وازدراها، ولكنه كان يفكر في هذه البطون الجائعة من حوله، وهو كاسبها ومعيلها، وهذه المناكب العارية. . . ولو كان في مكانه رجل آخر قاسى الذي قاساه، ورأى الأغنياء يبذرون المال تبذيراً، ويضيعون الألوف في الباطل على حين يحتاج هو إلى الدانق فلا