ألق عن عينيك هذا المنظار السحري الذي صنعه الأدب والفن؛ ثم أنظر إلى الحياة في شتى مظاهرها تجدها معركة هائلة على القوت لا تنقطع ولا تفتُر. وهذه المعركة التي لا ندرك لها طولاً في الدهر، ولا عرضاً في الكون، لا تنفك رحاها تلفظ على جنباتها قتلى وجرحى؛ وأولئك هم الذين خذلهم الضعف فماتوا شهداء، أو عاشوا فقراء. أما الموت فلا حيلة لأحد فيه؛ وأما الفقر فهو الداء العياء الذي خامر الإنسانية منذ طبعها الله على القدرة والعجز، وبرأها على الكمال والنقص. وهذا الداء كان وما زال موضوع الطب الاجتماعي يخفف بُرَحاءه بالمُرقد، ويكفكف غلواءه بالتمائم؛ ولكن دواءه الناجع ظل من وراء إمكانه حتى وصفه الله في دينه، وطبقه في شرعه، فانحسمت العدوى وانكشفت البلوى وبرئت العلة. فإذا رأيت في وطن الإسلام طرائد للفقر وفرائس للجوع فصدِّق الله وكذِّب نفسك. إن ما ترى لم يعد ذلك الوطن الذي أشرق بنور الله وتعطر بريح الجنة، إنما هو طلل ترَّحل عنه أهله، ومريض فرط فيه أساته، ومسلمون انطمست فيهم معاني القرآن فتعبدوا بألفاظه، وحاكمون أعضلت بهم أصول الحكم فاكتفوا بصوره. فلو كان للإسلام رأي في الحكومة وسلطان على الأمة لكان الوطن كله أسرة، والناس جميعهم إخوة، تجد فيهم الفقير ولا تجد المحروم، وترى بينهم الضعيف ولا ترى المظلوم؛ لأن شريعة الله جعلت بين الغني والفقير سبباً هو البر، وأنشأت بين القوي والضعيف نسباً هو الرحمة!
عالج الإسلام الفقر علاج من يعلم أنه أصل كل داء ومصدر كل شر. وقد أوشك هذا العلاج أن يكون بعد توحيد الله أرفع أركان الإسلام شأناً، وأكثر أوامره ذكراً، وأوفر مقاصده عناية. ولو رحت تستقصي ما نزل من الآيات وورد من الأحاديث في الصدقات والبر، لحسبت أن رسالة الإسلام لم يبعث بها الله محمداً آخر الدهر إلا لتنقذ الإنسانية من غوائل الفقر وجرائر الجوع. وحسبك أن تعلم أن آي الصيام في الكتاب أربع، وآي الحج بضع عشرة، وآي الصلاة لا تبلغ الثلاثين؛ أما آي الزكاة والصدقات فإنها تُربى على الخمسين.
كأنما أختار الله لكفاح الفقر أشح البلاد طبيعة وأشد الأمم فقراً ليصرعه في أمنع حصونه وأوسع ميادينه! فإن الفقر إذا أنهزم في قفار الحجاز كانت هزيمته في ريف مصر وسواد العراق أسرع وأسهل. ثم أختار الله رسوله فقيراً ليكون أظهر لقوته، كما أختاره أمِّياً ليكون أبلغ لحجته.