قد مضى عليه الآن بعض سنوات وهو يخرج كل صباح حاملاً هذه الرسائل التي تملأ حقيبته
أنه تعب من هذه الحياة، وسئم جر ساقيه المتعبتين من كثرة المشي من إفريز إلى إفريز يتلمس الأبواب
نعم بلغ به الملل والسأم الآن حد النفور من توزيع هذه المزق من الأوراق التي تأتي من كل ركن من أركان العالم وتقتضيه الجولان من شارع إلى شارع ومن باب إلى باب
مضى عليه الآن أمد طويل وهو على حاله هذه: يحترق تحت أشعة الشمس اللافحة وتكاد أنفاسه تتقطع من حر السموم التي تقذف باللهب كأنها فيح جهنم
وفي الشتاء يتلقى ميازيب السماء التي تغسله من فرقة إلى قدمه. ويجر رجليه اللتين كاد يفتهما البرد وسط الأوحال
إنه كره التسكع في أزقة هذه المدينة العظيمة التي لا حصر لها. كما كره منظر حقيبته التي لا تفارق جنبه. نعم إنه سئم السير آلاف الخطوات كل يوم ليوصل الأخبار إلى هذا وذاك
سنين. . .! إن سلسلة أيام هذه السنين الطويلة الخالية من الإنصاف قد مرت عليه وهي تنزل به الضربة تلو الضربة في كل يوم. وتحطم آماله وتهدم صرح أمانيه وتدفنها في الرغام. مسكين! إنه لا يكاد يجد بعض الراحة والهدوء لأعصابه المحطمة في ظلمة الليل حتى تقول له الشمس التي تشرق في مطلع كل نهار:
(إنك اليوم أيضاً - كما كنت أمس وكما كنت في كل الأيام الخالية - موزع بريد وستبقى كذلك ما دمت حياً)
آه من هذه الحياة المريرة التي حكم عليه أن يقضيها متسكعاً الساعات الطوال ليجد شخصاً من الأشخاص، يبحث عن أرقام المنازل تارة، ويسأل أصحاب الدكاكين والحوانيت عن