لقد كان رَجُلْ وَحْدِه في طراز عيشه ونظام عمله ونمط تفكيره وأسلوب
كلامه. والتفرد في الحياة والعمل والفكر والعبارة معناه في دنيا الأدب
الشخصية الممتازة التي لا يغنى عن وجودها وجود، ولا يَجزى عن
جهدها جهود، ولا يسهل من فقدها عِوض. فإذاأُضيف إلى ذلك أن
المازني كان أحد الكتاب العشرة الذين يكتبون لغتهم عن علم، ويفهمون
أدبها عن فقه، ويعالجون بيانها عن طبع؛ وأن هؤلاء العشرة البررة
متى خلَت أمكنتهم في الأجل القريب أو البعيد، فلن يخلفهم في هذا
الزمن الثائر الحائر العجلان من يحمل عنهم أمانة البيان ويبلغ بعدهم
رسالة الأدب، أدركنا فداحة الخطب الذي نزل بالأمة العربية يوم توفى
هذا الكاتب العظيم.
عرفت المرحوم المازني في خريف سنة ١٩١٤ يوم دخلنا المدرسة الإعدادية الثانوية معلمين، وكان يومئذ في مرح شبابه وميعه نشاطه يتوسط باحة الأدب ويطرق باب الشهرة ويحاول هو وصاحباه العقاد وشكري أن يشقوا طريقهم إلى المجد في أرض غليظة صلدة يقوم في بدايتها عقبتان: صاحب (الشوقيات) بشعره الرائع، وصاحب (النظرات) بنثره البليغ. ولكنهم كانوا أصحاب مِعول ومِسطرين: يهدمون بالنقد والثلب والتجريح، ويبنون بالتجويد والتجديد والدرس؛ فلم يفعلوا فِعل ضعفاء الملكة اليوم، يخفضون مستوى البلاغة ليصعد القميء، ويقربون غاية الفن ليلحق البطيء!!
وكان المازني على هذه الثورة وهذا الطموح خافض الجناح لأنه قوي النفس، راكد السطح لأنه عميق النور، فما كنت تراه يوماً ذاهباً بنفسه ولا متبجحاً بعلمه ولا مباهياً بعمله. ثم كان على ضآلة جسمه ووهن عظمه مهيب الجانب لذكاء قلبه ورجاحة عقله، فلا يعبث في درسه تلميذ ولا يجرؤ على كرامته معلم. ثم توثقت بيني وبينه أسباب المودة، فزاملته في التعليم، وصادقته في الأدب، وعاملته في الصحافة، فلم أجرب عليه شهد الله لؤماً في