التاريخ الإنساني ككل شئ في الوجود، يبدو لأول وهلة قطعاً متميزة، ومجموعات متباينة، مختلفاً باختلاف الأعصر والدول والحضارات والشعوب؛ ولكنه يظهر للمدقق جسماً واحداً متناسق الأجزاء، وشخصية واحدة متعاونة الأعضاء، وبنياناً يشد بعضه بعضا، ونهراً متصل المنبع بالمصب وإن اختفت أجزاؤه وأسماؤه باختلاف بحيراته وروافده. وكما أن البيت صورة مكبرة لأفراد الأسرة، والدولة وصورة كبيرة لمجموع بيوتها وأسرها، فكذلك الأرض منزل واحد لأسرة الإنسانية الكبرى، التي يؤدي فيها كل فرد من البشر ما تؤديه الخلية الواحدة في جسم الإنسان، وبتعبير آخر يقوم الإنسان في حياته بدورين. أحدهما باعتباره فرداً مستقلاً ووحدة قائمة بذاتها، وإرادة ظاهرة الاختيار. والدور الثاني يؤديه مجبراً ودون أن يشعر، باعتباره خلية من خلايا جسم الإنسانية العام، وإرادته الخفية في هذا الدور تسيرها الغرائز المركبة في طبه بالوراثة، والمتحكمة في حياته تحكماً لا يمكن الخلاص منه مهما بذل من العلاج كما يقول علماء النفس، وما أقصر أجل الإنسان باعتباره مستقلاً، وما أطول حياته باعتباره خلية في جسم الإنسانية العام المبتدئ بآدم والمنتهي فناء هذا الإنسان. وما أضعف الإنسان، وما أضيق أفقه إذا قيس بمجهوده الفردي، ومسارحه ومغانيه كفرد. وما أقواه وما أوسع منزله إذا نظر إليه في شخصيته الإنسانية الكبيرة التي منزلها الأرض كلها.
وهناك حقيقة مقررة في علم الأحياء، وهي أن كل خلية في الجسم الحي، تحمل خصائص الجسم كله ومميزاته وتحكي في حياتها وفنائها، حياته وفناءه. وأن النابتة الجديدة لجنس من الأجناس، تمثل في عمرها من وقت اللقاح إلى ما بعد الفناء، الأطوار والأدوار التي يمثلها الجنس كله من حين نشأته على الأرض، إلى وقت هذه النابتة.
ومثال ذلك: أن تاريخ الجنس البشري على وجه الأرض من نشأته إلى وقتنا هذا، تمثله في أطواره حياة فرد من وقت إخصاب البويضة في رحم أمه، إلى ان يفنى بعد شيخوخته.
ويمكن بناء على هذه القاعدة العلمية - والإنسان كائن حي - يمكن تطبيق هذه النظرية