لاحظنا فيما سبق أن الفارابي وابن سينا وقفا موقفا وسطا بين الآراء الفلسفية والتعاليم الدينية فيما يتعلق بالصلة بين الله والعالم. أما مشكلة الروح وخلودها فقد فارقا فيها أرسطو تمام المفارقة، ذلك لأن الذي ينكر هذا الخلود يهدم المسئولية من أساسها، ويقضي على غاية الأخلاق والقوانين والشرائع، ونحن نعلم أن أرسطو ينقد نظريات الفيثاغوريين والأفلاطونيين الذين يقولون إن النفس جوهر روحي متميز من الجسم تمام التميز، ويعلن أن النفس صورة الجسم؛ ويقرر بجانب هذا أن الصورة لا تستطيع البقاء بدون المادة، وإذن فمنطق مذهبه يؤدي إلى النتيجة المحتمة، وهي أن فناء الجسم يستلزم فناء صورته وهي النفس، وعلى الجملة فأرسطو لا يتكلم عن مشكلة الخلود إلا عرضاً، وليته حين تعرض لها جاء بشيء مقبول، بل أفكاره فيها متناقضة متهافتة، على العكس من هذا نجد رأي الإسلام في هذه النقطة واضحاً وضوحاً لا يقل عن النقطتين السابقتين، فإن تعاليمه تقضي ببقاء الروح وخلودها وإلا لم يكن للثواب والعقاب معنى، وهذا هو الرأي الذي أخذ به الفارابي بعد تردد، وانتصر له ابن سينا انتصارا عظيما ودافع عنه دفاعا مجيدا، يقول:(إذا حصلتَ ما أصَّلْتهُ لك علمت أن كل شيء ما من شأنه أن يصير صورة معقولة وهو قائم الذات، فأنه من شأنه أن يعقل فيلزم من ذلك أن يكون من شأنه أن يعقِل ذاته. . . وكل ما يكون من هذا القبيل، فغير جائز عليه التغيير والتبديل) وفي كتاب النجاة بحث طويل عنوانه (فصل في أن النفس لا تموت بموت البدن). وفي هذا الفصل يحاول ابن سينا من طريق عميق ومضن إثبات خلود النفس
هنا تنتهي أيها السادة الشعبة الأولى من شعب التوفيق بين الفلسفة والدين. وقد رأيتم أنه كلما اصطدم رأي أرسطو بأصل ديني مال الفلاسفة المسلمون نحو تعاليم الدين أو فسروها تفسيراً ينطبق على ما ذهب إليه فيلسوف الإغريق. ونحن لا ننكر أن الفارابي وابن سينا كونا نظرية كلامية جديدة متعلقة بالإله وصفاته. وهذه النظرية تقربهما من مبادئ الإسلام بقدر ما تبعدهما عن أستاذهما أرسطو. إلا أنها في الوقت نفسه متعارضة في لفظها وروحها