الحر شديد تلفح زفراته الوجوه، والترام مزدحم بالناس قعوداً ووقوفاً، وما منهم إلا من ملأ الفتور بدنه كأنما أخذتهم جميعاً سنة فهم صامتون مطرقون. وليس ما يدب فيه النشاط والقوة إلا هذا الترام السريع الذي ينحدر إلى القاهرة من مصر الجديدة منطلقاً كالسهم، يهز ركابه الوسنانين هزات قوية تنفض عنهم بعض فتورهم وتكاد تلقى بالجالسين منهم على أطراف المقاعد إلى أرض العربة في منعرجات الطريق. . .
وفي زاوية من العربة جلس ثلاثة: معمم على أحد المقاعد يواجهه على المقعد مقبع ومطربش.
أماالمعمم فهو في حدود الأربعين أنيق الثياب جداً، نظيفها كأنما وقادم بها من فوره من دكان الخياط ولست أدري ماذا يصنع يوم العيد ليشعر الناس أنه (غَيَّر) ملابسه؛ ممتلئ البدن، أبيض الوجه في حمرة، متورد الوجنتين، تنبئك ملامح وجهه بأنه فكه خفيف الروح، وتحدثك عيناه ولفتاته ونظراه فيمن حوله - على الرغم من الفتور الذي لحقه كما لحق غيره - أنه (ابن بلد) بأوسع معنى لهذه الكلمة.
أما المقبع فهو عُتُلٌّ في نحو الستين، ثقيل الظل جامد الطبع فيما يبدو من ملامحه وهيكله جميعاً، وبخاصة حاجباه الكثيفان ومنخاراه الواسعان وعيناه الضيقتان وفمه الذي ما إن رأيته حتى جزمت بأنه لم يبتسم مرة في سنواته الستين، ولو طلب إلى أن أؤدي يميناً عن هذا لأديتها في غير حرج.
أما المطربش فأرجو أن تعفيني من وصفه فذلك هو أنا صاحب المنظار. . .!
وحدث بين هؤلاء الثلاثة ما بعث الركاب جميعاً من سِنتهم وما أضحكهم على الرغم من الحر والغبار وجهد اليوم. . .
مد المقبع إحدى رجليه فوضعها على المقعد حتى مس حذاؤه ملابس المعمم أو كادت، فنظر إليه هذا نظرة استنكار عله يسترد رجله ويبعد ذلك الحذاء الذي خيل إليّ لكبره أنه مركب من مراكب الأطفال؛ ولكنه لم يتحرك؛ فقال له المعمم:(من فضلك يا خواجه) وأشار إلى حذائه؛ فنظر إليه المقبع متثاقلا وقال:(لا. . . أنا حر) ونطق الحاء خاء فازداد ثقلا على