قرأت منذ أيام في صحيفة يومية، مقالة يسأل فيها كاتبها عن العلم والأدب والقول فيهما، والمفاضلة بينهما، فوجدته قد حمل الكلام على غير محمله، وساقه في غير مساقه، فأفتى وهو المستفتى، وحكم وهو المدعي، فلم يدع مذمة إلا ألحقها بالأدب، ولم يترك مزية إلا نحلها العلم، وزعم بأن الأمر قد انتهى، والقضية قد فصلت، وحكم للعلم على الأدب. . . فلم أدر متى كانت هذه المنافرة وأين كانت هذه المفاخرة، ومن هو الذي جلس في منصة القضاء، ومن الذي زعم أنه وكيل الأدب حتى أخزاه الله على يديه، وأذله به؟. . .
ومتى كان بين العلم والأدب مقاربة، حتى تكون بينهما (مقارنة)، ومتى كان بينهما مناضلة، حتى تكون بينهما مفاضلة؟ وهل يفاضل بين الهواء الذي لا يحيا حي إلا به، وبين الذهب الذي هو متاع وزينة وحلية، ولو كان الذهب أغلى قيمة، وأعلى ثمناً، وأندر وجوداً؟
إن الأدب ضروري للبشر ضرورة الهواء. ودليل أن البشرية قد عاشت قروناً طويلة من غير علم، وما العلم إلا طفل ولد أمس ولا يزال يحبو حبواً. . . ولكن البشرية لم تعش ساعة واحدة من غير أدب، وأظن أن أول كلمة قالها الرجل الأول للمرأة الأولى، كلمة الحبّ، لمكان الغريزة من نفسه، ولأنها (أعني غريزة حفظ النوع) كانت أقوى فيه، والحاجة إليه أشد وبقاء النوع معلق بها، فكانت كلمة الحب الأولى أول سطر في سفر الآداب، كتبت يوم لم يكن علم، ولا عرفت كلمة العلم. . . ودرج البشر على ذلك فلم يستغن أحد عن الأدب، ولم يعش إلا به، ولكن أكثر البشر استغنوا عن العلم ولم يفكروا تفكيراً علمياً، وهؤلاء هم الأكابر من العلماء كانوا يضطرون في ساعات من ليل أو نهار، إلى مطالعة ديوان شعر، أو النظر في قصة أدبية، أو صورة فنية ليبلوا صوت العاطفة، ويستمعوا نداء الشعور، وأكثرهم قد أحب، وملأ نفسه الحب، فهل بلغ أحداً أن أديباً نظر في معادلة جبرية، أو قانون من قوانين الفيزياء أو أحس الحاجة إلى النظر فيها؟ وهذا أكبر عالم في مختبره، يسمع نغمة موسيقية بارعة، أو يرى صورة رائعة، أو تدخل عليه فتاة جميلة عارية مغرية، فيترك عمله ويقبل على النغمة يسمعها، أو الصورة يمعن فيها، أو الفتاة يداعبها، فهل رأيت شاعراً متأملاً يدع تأمله، أو مصوراً يترك لوحته ليستمع منك