كانت برهة ما بين الحربين، امتحاناً لنا، معشر العرب، واختباراً لعزائمنا، وقد خرجنا من هذه المحنة ناجحين مظفرين وأثبتنا أننا لم نضع إرث الجدود، ولم نفقد عزة الإسلام، وانه لا يزال في عروقنا دم الأجداد، ولا تزال في قلوبنا عزائمهم وأرينا الدنيا كلها أن استماتة المحق تغلب قوة المبطل، حين حاربنا ونحن شعوب عزل جيوش الدول التي انتصرت في الحرب الأولى وسكرت بخمرة الظفر، وحسبت أنها شاركت الله في ملكه، وزاحمته على سلطانه، فقابلتها شراذم منا، ما لها سلاح إلا سلاح الحق وما تنتزعه أيدي عدوها، وثبتت لها وأرهقتها عسراً من أمرها، حتى لانت لها، أو نزلت على مطالبها: حاربنا الإنكليز في شوارع مصر، وفي سهول العراق، وفي ربوع فلسطين، وحاربنا الفرنسيين في جنان دمشق، ورحاب حماة، وشعاف الجبل وحاربنا فرنسا وأسبانيا معاً في سوح الريف الأقصى، وحاربنا الطليان في طرابلس، وثرنا على الغاصب في كل بقعة من أرض العرب، وما خليناه ليلة من إزعاج، ولا أرحناه ساعة واحدة، ولكن كنا نحارب شعوباً لا حكومات، أما حكوماتنا فكانت علينا مع عدوها وعدونا، حتى استقر في إفهام الشعب أن حكومته خصم له، وحتى صرنا في الشام إذا أثرنا ثورة أو سّيرنا مظاهرة، أعملنا سلاحنا في إخواننا من رجال الشرطة، كما نعمله في خصومنا من الفرنسيين ومن كان يناصرهم علينا وقت الثورة من المغاربة والشراكسة والأرمن والسنغاليين، وحتى كدنا نفقد على طول المدى، توقير الأنظمة، وتقديس القوانين، لأنها من عمل الأجنبي وعلم عبيده، لا يضعونها إلا لمصالحهم، وضمان منافعهم إلى أن كان حادث مايو سنة ١٩٤٥ وجُنّ الفرنسيون الجنة الكبرى فأبوا إلا أن يظهروا ديمقراطيتهم. . . وعدالتهم. . . ومبادئ ثورتهم. . . دفعة واحدة، فضربوا المدينة الآمنة بقنابل الطيارات، وقذائف المدافع، من القلاع المنصوبات على الجبال ورموا بالنار، الأطفال في المدارس، والمرضى في المشافي، والمحبوسين في السجون، وأحرقوا البيوت وهدوها على أهلها، وقتلوا رجال مصلحة الإطفاء الذين جاءوا ليطفئوها، وفعلوا كل ما يليق بحضارتهم وتاريخهم وأمجادهم. . ولا ينتظر غيره منهم.
هنالك رأينا، أول مرة، رجال الشرطة والدرك يقاتلون معنا ويدافعون عنا، ورأينا الرؤساء